هذه قصة حقيقية تماما، حدثت وبالحرف الواحد!
كنتُ أستمع لبرنامج صباحي من راديو السيارة في مدينة عربية، وكان المذيع وزميلته، يمتدحان
رواية صدرت حديثا ويعلنان فخرهما باستضافة الروائية الشابة الواعدة، ويسرفان في الثناء عليها، وعلى “حنكتها
الأدبية”، و”عملها الذي سيكون نقلة نوعية في الرواية العربية” .. والله هكذا وصفاه!
ثم سألاها معا: لماذا أسميت روايتك بـ”الفهيمة”؟ فتنهدت الفتاة الروائية وقالت: “لهذا الاسم قصة؛ فقد كان أستاذي في الإعدادية يلقبني بالفهيمة، وأحببت هذا الاسم، فأسميت الرواية به”!
لاحظ هنا التعامل مع التسمية كأنما تتحدث عن تسمية محل عصير، أو ملحمة، أو بقالة، فلا ضرورة أبدا لربط الرواية باسمها، ولا علاقة لمضمونها أو حبكتها أو قصتها باسمها. هي تعاملت مع الأمر كأنها تسمّي قطتها!
السؤال الثاني لم يكن أقل كارثية، حين سألها المذيعان عن سر اللون الـPink (الزهري) الذي اختارته (لطلاء) الغلاف بالكامل، وما هي قصته، فقالت بزهو يحسدها عليه عبد الرحمن منيف؛ إنها حين التقت “ناشرها” اكتشفت أنهما، هو وهي، وبالمصادفة البحتة (للأمانة كلمة البحتة لم تقلها هي بل منّي أنا)، كانا يلبسان نفس اللون الـPink!! وأن هذه المصادفة (التي أصرّ أنا أنها بحتة)، دفعتها لاختيار هذا اللون غلافا للرواية!
ولم تلتقط الروائية أنفاسها قبل أن تتابع بحماسة: “وحين أقمنا حفل التوقيع في معرض الكتاب كتبتُ في الإعلان أن على جميع الحضور ارتداء اللون الـPink، وقد أعجب الجمهور بالفكرة وجاؤوا جميعاً يرتدون نفس اللون، وكان حفلا واااو”!
هذه والله العظيم قصة حقيقية، وهذا الحوار حقيقي بالحرف، مع تغيير طفيف باسم الرواية، فهي ليست “الفهيمة” بل “الـ…يمة”، والحرفان الغائبان يحولان المفردة إلى كلمة ليست بعيدة، فهي تدل على الحكمة والخبرة!
إلى هذا الحدّ المبتذل وصل “الأدب العربي” ووصل امتهان الكتابة واستسهالها، في عصر وسائل
التواصل الاجتماعي التي أعطت الفرصة لكل الأغبياء كي يصلوا إلى الجمهور.
لستُ ضد الديمقراطية والحرية وحق الناس في قول ما يقولون، لكنني أجزم بأن كل ظاهرة في الحياة تحتاج إلى تنظيم من نوع معين، بما فيها الديمقراطية.
فليس من المنطق التطاول على الأدب والفنون بهذا الشكل الذي تشهده مواقع ومنصات كثيرة، حتى إنه صار لدى العرب من الروائيين والروائيات أكثر مما لديهم من الجنود والمزارعين والعمال، وجرى استسهال الأدب والتعامل معه كتسلية و”سهرة توقيع” وعلاقات عامة و”خاصة”، ولا تسأل عن “الناشرين” الذين يتعاملون مع هؤلاء الشباب والشابات كمتسوقين، فما دام “الشيك” جاهزاً فالمطبعة أيضا جاهزة، ويمكنها أن تطبع لفهيمة وسليمة وحكيمة، وأن “تعزمها” على معارض الكتاب، بوصفها صاحبة “نقلة نوعية” في الرواية العربية!
هذه قصة قصيرة جدا، وصغيرة جدا، مما يحصل من أهوال في معارض الكتب، ومما “ترتكبه” دور النشر.. أو “بعضها” حتى لا يعتب “بعضها”!
(الغد الأردنية)