(من
عباس إلى عباس يا قلب لا تحزن)
استوقفتني صفقة
قناة السويس بين "بولو"
والخديوي عباس الثاني، وحيرتني الأرقام التي وردت في الوثيقة الفرنسية: 150 مليونا
تدفعها الشركة مقابل مد امتياز القناة حتى عام 2008، نصيب الخديوي وحده ثلثا
المبلغ، ونصيب السمسار بولو 10 ملايين، بينما يتم توزيع أربعين مليونا على "الأربعين
حرامي" (أعضاء مجلس النواب المصطنع الذي تواطأ مع صفقة الخديوي السرية، بعد
أن رفض المجلس الصفقة في العلن)!!
(ما هذه اللخبطة؟)
الحاكم يعترض على تجديد الامتياز في العلن ويأمر
برلمانه برفض الصفقة، والمظاهرات تعم الشوارع اعتراضا على فكرة مد الامتياز بحيث
تستمر من نهاية العقد الأول من القرن العشرين ولمدة قرن، بينما يتفاوض الحاكم سرا
عن طريق وسيط فرنسي لكي يتقاضى من الشركة مبلغا ضخما، كتعويض عن الإجحاف المالي في
عقود الامتياز القديمة!
هل هذه وطنية من نوع خاص؟ أم تآمر وخيانة؟ أم جهل
وخيابة؟
تذكرت عباس الأول وقصته مع مستشاره الفرنسي الذي طلب
ميزانية لاستكمال مشروع تنظيم مياه الري المعروف بالقناطر الخيرية، وكانت الأحجار
الضخمة تشكل رقما كبيرا في الميزانية، فاجتهد الخديوي "الشاذ" وطلب من
مستشاره أن يهدم الأهرامات ويستخدم حجارتها في بناء قناطر المياه، فالأهرامات مجرد
بناء قديم لا نفع له ولا مصلحة في وجوده..
كانت قناة السويس (ولا تزال) مطمعاً للاستعمار، في البدء كان الصراع بين الفرنسيين والإنجليز، والآن تسعى أمريكا إلى التحكم في القناة كجزء من استراتيجيتها المعروفة بـ"الطريق إلى أفريقيا"، والسيناريو الأصلي هو التحكم في القناة بعد تدويل البحر الأحمر عن طريق تنازل مصر عن ممر تيران المائي، بحيث يصبح الطريق إلى القرن الأفريقي دوليا لا سيادة لمصر عليه حتى في أوقات الحرب
(الخائن والخائب)
لا أتوقف لأسأل إن كان عباس الأول خائباً أم خائناً،
فالنتيجة لا تختلف كثيراً، لأن جهل الحاكم لا يقل خطورة عن خيانته، وهذه واحدة من
المصائب العظمى التي اكتوت بها
مصر والمصريين: بؤس المصير بين عباسَين.. الاختيار
بين ميكروب كعباس الأول، وفيروس كعباس الثاني، أو المزيج القاتل بينهما كما نحن
الآن، وكما ظهر في
مشروع الصندوق الاستثماري الذي ينذر بتحويل القناة إلى سلعة أو
بوابة جديدة للاستعمار الجديد، وكأن
التاريخ لا يعلّم الملدوغين تجنب شر الجحور
المسكونة بثعابين الحكام الجهلة والخونة!
(الوطنية والاستثمار وساويرس)
منذ نشأتها كانت قناة السويس (ولا تزال) مطمعاً
للاستعمار، في البدء كان الصراع بين الفرنسيين والإنجليز، والآن تسعى أمريكا إلى
التحكم في القناة كجزء من استراتيجيتها المعروفة بـ"الطريق إلى أفريقيا"،
والسيناريو الأصلي هو التحكم في القناة بعد تدويل البحر الأحمر عن طريق تنازل مصر
عن
ممر تيران المائي، بحيث يصبح الطريق إلى القرن الأفريقي دوليا لا سيادة لمصر
عليه حتى في أوقات الحرب، وبالتالي فإن المبررات التي ساقها الأفّاقون المحدثون عن
سيادة مصر على صندوق القناة الاستثماري، ليست إلا تمريرا لصفقة
الخيانة بوعد
الحفاظ على السيادة، وهو وعد تكذبه وقائع التبعية الكاملة لمصر كما يبدو في
علاقتها مع أمريكا ووكيلتها إسرائيل؛ التي تلوح دائما بسيناريو مواز عن طريق إنشاء
ممر بديل لقناة السويس، وبرغم صعوبة تطبيق الفكرة بشكل عاجل، إلا أن الزمن أثبت
لنا أن الأفكار المطروحة تتحول إلى واقع مهما كانت صعوبتها، طالما أن هناك قوة تقف
وراءها.
المبررات التي ساقها الأفّاقون المحدثون عن سيادة مصر على صندوق القناة الاستثماري، ليست إلا تمريرا لصفقة الخيانة بوعد الحفاظ على السيادة، وهو وعد تكذبه وقائع التبعية الكاملة لمصر كما يبدو في علاقتها مع أمريكا ووكيلتها إسرائيل؛ التي تلوح دائما بسيناريو مواز عن طريق إنشاء ممر بديل لقناة السويس
والتاريخ يخبرنا أن حكامنا هم دائما مدخل الأعداء إلى
البلاد، ولا فرق بين إسماعيل وابنه توفيق وحفيده عباس إلا في المظهر الخارجي،
والخطاب الذي طوره عباس الثاني إلى خطاب سياسي احتيالي يبيع الوطنية والاستقلال
للشعب ونخبته، بينما الواقع في اتجاه آخر. ولعل صفقة بولو- عباس تعطينا فكرة عن
هذه اللعبة الحقيرة التي يتوارثها الحكام قبل عباس وبعده، وتعالوا نتعرف على بعض
فصول الصفقة باختصار:
تمكن الإنجليز من التسلل إلى شركة قناة السويس عن طريق
شراء أسهم إسماعيل، وبعد أن تقاسموا النفوذ مع الفرنسيين لفترة صارت لهم الغلبة
والهيمنة على القناة ومصر كلها، لذلك فكروا في مد فترة الامتياز لأطول مدى ممكن،
على عكس ما يتصوره رجل المال الشهير نجيب ساويرس، الذي كتب قبل أيام على حسابه في
"تويتر" يُخَطّئ قرار تأميم شركة قناة السويس (1956)؛ مؤكدا أن فترة
الامتياز كانت ستنتهي بعد 12 عاما فقط (1968) وتستلم مصر قناتها ومعاها
"بوسة"..
لا أعيب على ساويرس ظنونه، لكنني أعيب أن يقدمها
لمتابعيه وكأنها حقائق تاريخية، فالحقائق تقول إن بريطانيا لم تقنع منذ اللحظة الأولى
بتسليم القناة في 1968 وقدمت عرضاً لمد فترة الامتياز 40 عاما أخرى مقابل أربعة
ملايين جنيه فقط، وطلب المندوب البريطاني أن تعلن الحكومة المصرية المشروع من
جانبها وتدافع عن مميزاته ونفعه لمصر. وبالفعل بدا سعد زغلول في الدفاع عن المشروع
وأهميته بالنسبة لمصر التي تحتاج للمال لاستكمال مشاريع نهضتها!
بعد أخذ ورد في الكواليس تدخل الفرنسيون لدى عباس،
الذي أدرك بحسه التجاري أن الصفقة يمكن أن تعود بأرباح أكثر من الملايين الأربعة
بكثير، وكان عباس قد ساهم في إنشاء الحزب الوطني وعدد من الصحف بينها
"اللواء"، فأمر بتسريب نسخة من المشروع لتنشره صحيفة
"اللواء"، وتبدأ بعدها حملة وطنية تنادي برفض التمديد. وحدثت أزمة كبيرة
اقتضت إحالة الموضوع للنقاش في المجلس الناشئ (البرلمان)، ولعب عباس لعبته
المزدوجة، فكان يُظهر الموافقة على المشروع في العلن، بينما يطلب من برلمانه رفض
المشروع، ليس للحفاظ على سيادة مصر ولا استعادة القناة، ولكن من أجل التهام طبخة
أعظم يتم إعدادها سراً، وهي الطبخة التي يعود عائدها عليه بالأساس، ثم برلمانه
المصطنع وسمساره الفرنسي الخفي (بولو باشا).
قد يستغرب أحدكم أو يستنكر الإشارة إلى دور الزعيم سعد
زغلول (كان وزيرا حينها) في الدفاع عن المشروع لصالح الإنجليز، ويكتفي بالإشارة
إلى بطرس باشا غالي باعتباره الخائن الوحيد وعميل الإنجليز الذي تلقى الأوامر من
بول هارفي، المستشار المالي الإنجليزي في لجنة الرقابة الثنائية، وجاهر بالدفاع عن
المشروع ما أدى لاغتياله برصاصات الورداني، عضو اللجنة الفدائية في الحزب الوطني!
وقد يشيد آخر بدور محمد فريد الرافض للمشروع، أو بقرار
البرلمان الذي أجهض الصفقة، لكن هذا الحديث كله يبقى حديثا منقوصا، أشبه بإبداء
رأي في تمثيلية تم فيها توزيع الأدوار.. الشرير أجاد والطيب أجاد، وبلغة التشجيع
في كرة القدم، يمكن أن نعلق على مباراة القناة فنقول: عباس يلعاااب؟.. حلو، زغلول
يلعاااب؟.. حلو، فريد يلعااب؟.. حلو، مجلس النواب يلعاااب؟.. حلو..
بعد الرفض الرسمي للمشروع بدأ الجزء الثاني من خطة
عباس، وتمثل في إظهار الظلم المالي الذي وقع على مصر من جانب شركة القناة، كتمهيد
لطلب تعويض وتعديل العقود القديمة قبل النظر في رغبة تجديد الامتياز لمدد أخرى، وهذا
يوضح أن الموضوع لم يكن سيادة ولا يحزنون، بل مجرد "استثمار مالي في لحم
الوطن"..
قصة الحاكم والسمسار، قصة درامية مشحونة بالدراما والغموض، والمحزن أنها قصة مسلسلة لا تنتهي أبداً، حتى أننا لا نكاد نعرف الحدود الفاصلة بين الطرفين، فالحاكم في أحوال كثيرة يكون هو السمسار، والمصيبة الكبرى أن السلعة التي يتاجر بها الحكام هي الأوطان ومعيشة الناس
ولمن لم يفهم مثلي سر الـ150 مليون جنيه التي سيتفاوض
عليها "بولو باشا" لترتيب موافقة الدولة المصرية على مد الامتياز، فإنها
تمثل قيمة مبلغ التعويض عن الإجحاف المالي في العقود القديمة، والذي قدره البرلمان
(الجمعية التشريعية المصرية) بقيمة 130 مليون جنيه، رفعها عباس الثاني إلى 150 مليونا،
لأن البحر يحب الزيادة كما يقول المصريون..
(الحبل ع الجرار)
قصة الحاكم والسمسار، قصة درامية مشحونة بالدراما
والغموض، والمحزن أنها قصة مسلسلة لا تنتهي أبداً، حتى أننا لا نكاد نعرف الحدود
الفاصلة بين الطرفين، فالحاكم في أحوال كثيرة يكون هو السمسار، والمصيبة الكبرى أن
السلعة التي يتاجر بها الحكام هي الأوطان ومعيشة الناس، لهذا أواصل الحديث في
القصة، برغم أنني كنت أود تحية ثورة يناير في ذكراها، وعزائي أن التذكير بأعداء
الثورات وتجار الأوطان طريقة عملية في الاحتفال بالثورة وأهدافها..
كل عام والشعوب على أمل وكفاح وعزيمة، حتى ينعم الله
على الطيبين باعتدال الموازين، فيسود الحق وينال الطغاة عقابهم في الدنيا قبل
الآخرة..
القصة متصلة، فإلى اللقاء في المقال المقبل.
[email protected]