هل يستطيع العرب تغيير واقعهم في العام الجديد؟

ليس من قبيل التفلسف أن يُطرح سؤال كهذا. فالتفلسف في الواقع العربي الراهن ليس متاحا، بل المطلوب من كل عربي أن يتناول الواقع الذي يعيشه، وأن يجاهر بأفكاره وآرائه حوله. وبعد أن أصبح الكل سُجناء فيه رغم أنوفهم، بات من الطبيعي أن يفتح الجميع حوارا مباشرا مع هذا الواقع، لأن ثمة مظاهر كثيرة تستدعي بيان الرأي بعبارات واضحة لا لبس فيها، وأصبح التشخيص والتغيير ضرورة وليس اختيارا.

وعاما بعد عام، ويوما بعد يوم، يبرهن لنا هذا الواقع السيئ الذي يعيشه الجميع، على أشياء كثيرة، بعضها كان غائبا عنا، إلا أن بعضها الآخر معروف لنا. وكل هذا يضعنا أمام حقيقة واحدة لا غير، وهي أن المدماك الرئيسي الذي يجب وضعه في أسس التغيير المنشود هذا، هو أن نغير ما بأنفسنا أولا وقبل كل شيء. فسلطة التغيير التي أوتينا إياها مقتصرة على الذات، وإن تغيير ما بالواقع سلطة ليست بأيدينا في حقيقة الأمر. وقد يقول قائل إن هذا كلام لا يقبله عقل ولا منطق، في خضم الحديث المتكرر والمُكرر الذي ران على مسامع الجميع زمنا، بأن تغيير الحال هو بيد الذين يعيشونه، لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هو، إذا كانت سلطة تغيير ما بالواقع هي بأيدينا، فعلام فشلت كل ثوراتنا؟ ولماذا في كل مرة يغلبنا الواقع؟ أليس أبرز مثال قريب على ذلك هي ثورات الربيع العربي التي فشلت؟ في حين ظن الجميع أنها نجحت أو قاب قوسين من النجاح.

الذين استطاعوا مغالبة النفس وتغيير واقعهم الذاتي، قبل الشروع بتغيير المحيط الذي يعيشون فيه، والظروف التي تحيط بهم، هم الذين أفلحوا في تغيير الواقع

إن الإجابة على ذلك تقتضي معرفة، أن الذين استطاعوا مغالبة النفس وتغيير واقعهم الذاتي، قبل الشروع بتغيير المحيط الذي يعيشون فيه، والظروف التي تحيط بهم، هم الذين أفلحوا في تغيير الواقع، لأن عملية التغيير هذه تتطلب أشخاصا استبدلوا ميلادهم الأول الطبيعي بميلاد روحي جديد. وهنا يقول الروائي الكولومبي الشهير غابريل غارسيا ماركيز، (لا يولد البشر مرة واحدة، يوم تلدهم أمهاتهم وحسب، فالحياة ترغمهم أن ينجبوا أنفسهم). ومعنى هذا أن الإنسان الجدير بامتلاك سلطة تغيير الواقع الخارجي يولد مرتين لا مرة واحدة، المرة الأولى هي الميلاد الطبيعي المتعارف عليه، الذي لا فضل لأحد فيه وليس خيارنا بل هو قدر. أما الميلاد الثاني المختص بالروح لا بالجسد فهو خيارنا وإرادتنا، الذي نمتلك به وسائل تغيير ما في الواقع. وهذا الطريق هو الذي سلكه الأنبياء والرُسل وحققوا فيه الحقيقة، ثم قدموها للناس فتبعوهم وغيروا الواقع الذي كان سائدا، لذلك ليس عبثا أن ترد خطة هذا الفعل التغييري في الكتب السماوية، وفيه تحريض واضح على مغالبة النفس، من أجل الانقلاب على الواقع الذاتي أولا، وصولا إلى الانقلاب على الواقع العام الخارجي.

ففي القرآن الكريم وردت الآية التي تقول (إنّ الله لا يُغيّرُ ما بقوم حتّى يُغيّرُوا ما بأنفُسهم)، وفي الإنجيل ورد (لا يدخُل ملكوت الرب من لا يولد مرتين). وهذه دعوة صريحة لمجاهدة النفس ومنازعتها من أجل تغييرها. وهنا يبرز سؤال آخر هو، ما هي الأثمان الواجب دفعها لتحقيق التغيير الذاتي؟ أم أن ذلك يحدث بالمجان؟ واهم من يظن أن التغيير الذاتي فعل روتيني بسيط يمكن القيام به من دون ثمن، والأكثر وهما هو ذلك الذي يظن، أن أي إنسان قادر على الانتقال من الولادة الطبيعية الأولى إلى الولادة الثانية بواقع ذاتي جديد بالمجان، فتغيير النفس يتطلب تقديم قرابين سخية وأثمان باهظة من أجل ولادة الروح فينا، تلك التي ستقودنا إلى معرفة الحقيقة، التي لن نصل إليها إلا بجهاد النفس.

ولأننا نستسهل الحقيقة دائما، وقضينا عقودا من الزمن ننتظر الحلول من الخارج حتى أدمناها كعلاج لكل مشاكلنا، فقد تطبّعنا بالواقع المُعاش وعقدنا صلحا أبديا معه، وبتنا نخاف من دفع أي ثمن في سبيل حرية أمتنا وكرامتها. كما نسينا تماما أنه لا يوجد إنسان عظيم من دون ألم كبير، ولا أهداف تتحقق من دون تضحية، ولا طريق جديد بلا تجريف للقديم. كما فقدنا التمييز بين العالمين الداخلي والخارجي، فأول متطلبات التغيير هو معرفتنا بأن الوجود الخارجي هو ظل الوجود الذي فينا. فالواقع الخارجي الذي نروم تغييره هو موجود فينا ويسكننا، وما هو إلا انعكاس وخيال لما موجود في دواخلنا نحن، وبالتالي فإننا عندما نغير ما بأنفسنا يتغير الواقع الذي نعيش فيه تلقائيا.

إن أكثر الآفات فتكا بمجتمعاتنا العربية هو القبول بالأمر الواقع السائد اليوم، والتخلي التام عن مقارعته، بل عقد الصلح الدائم معه وكأنه قدرنا، والسبب في ذلك هي حالة الشعور بالعجز عن تغيير الذات، ما قادنا إلى اليأس والقنوط، ومن أبرز علاماتهما، بكاء الرجال عند مواجهة المشاكل اليومية التي غرقنا فيها. أنظروا إلى الرجال العراقيين الذين تلتقيهم القنوات الفضائية، حين يبكون وهم يتحدثون عن الظلم الواقع عليهم وعلى عوائلهم، وضنك العيش وفقدان أبسط مستلزمات الحياة، بل ذهب البعض منهم إلى شق الجيوب ولطم الصدور والرؤوس، وهم يتحدثون عن المآسي التي يمرون بها في هذا البلد.

كما تخلت النساء عن أدوارهن في تحريض أزواجهن وأبنائهن في محاربة الواقع الذاتي لهم. فتنصح إحداهن زوجها بأن لا يشارك الشباب في انتفاضتهم ضد السلطات الغاشمة قائلة، لديك عمل ونحن نأكل ونشرب فعلامك تريد الخروج على السلطة. في حين لو تصفّح الجميع التاريخ السياسي الحديث لهذا البلد، فسيجدون أن الشباب اليافعين من طلبة المدارس الإعدادية وطلاب الجامعات العراقية، إناثا وذكورا، كانوا يُسقطون الحكومات ويمزقون المعاهدات الاستعمارية في خمسينيات القرن المنصرم، وينتصرون لقضايا الأمة في فلسطين وثورة الجزائر، ويسقطون شهداء في مقارعة الظلم، لأنهم استطاعوا أن يغيروا ما بأنفسهم، ثم بدأت مسيرة الواقع نحو التغيير أيضا.

إن الرهان في عملية التغيير المنشودة للواقع العربي الرديء اليوم، يجب أن يكون على العالم الذي يسكننا، بمعنى عوالمنا الذاتية، وليس الرهان على العالم الذي نسكنه ونعيشه. وهذه هي المعادلة التي تنقل المجتمعات من حال إلى حال، فقد كانت هنالك دول ومجتمعات في هذا العالم، أدنى مستوى من أقطارنا ومجتمعاتنا العربية، لكنها تجاوزتنا بسنين ضوئية في غضون سنوات قليلة، وأصبحت في مصاف الدول المتقدمة التي يحسب لها ألف حساب في الأحداث الدولية.

أبرز مثال على ذلك، الصين ودول النمور السبعة في جنوب شرق آسيا. وقد أشار الرئيس الصيني في زيارته الأخيرة إلى السعودية، إلى أن عددا من الدول العربية كانت متقدمة على الصين قبل عقود قليلة. أن التحذير الأكبر الذي يجب أن ينطلق اليوم في مجتمعاتنا العربية هو، عدم الركون إلى الأوضاع الكارثية القائمة، واعتبارها ردائنا الذي لا يمكن استبداله، فالخوف كل الخوف من أن يطيب لنا عواء هذا الواقع ونتخذه سمفونيتنا الأبدية.