مقالات مختارة

مونديال قطر: المغرب، فلسطين ومحبة الأمهات

مالك التريكي
1300x600
1300x600
طول الاعتياد يضعف الانتباه ويحد من القدرة على الملاحظة، ولهذا فإن الزائر قد يرى ما لا يراه صاحب البيت، كما أن السياح يلاحظون في العادة أشياء، وتلفت أنظارهم تفاصيل لا يكاد يشعر بها أبناء البلاد. 

وكما أن من مزايا مونديال 2022 أنه أيقظ العالم بأسره على حقيقة أن العرب أمة واحدة وأن فلسطين في قلبها، وكما أنه أفهم الأعداء أن المحبة لا تشترى (ولو بتوقيع المعاهدات مع الحكومات)، فإن من مزاياه أيضا أنه فتح عيون البشرية على خصال أخلاقية متأصلة في معظم بلادنا العربية، إلا أننا لا نكاد نشعر بها لأنها من عاداتنا أو طباعنا الاجتماعية، بينما هي تثير انتباه الزائر الأجنبي، فما إن يلاحظها أو يشيد بها، حتى ننتبه إليها ونبصرها بعيون جديدة.

ومن أمثلة ذلك ما تناقلته وسائل الإعلام العالمية عن الأمان التام الذي شعرت به النساء الأجنبيات، الأوروبيات والأمريكيات إلخ، في أثناء إقامتهن في قطر لحضور مباريات المونديال. حيث قالت كثير منهن إنهن لم يتعرضن لأي مضايقة من أي نوع، ولا حتى إلى أي من العبارات المسيئة أو البذيئة التي تعودن سماعها في شوارع بلدانهن، والتي كثيرا ما يطلقها الرجال (خصوصا الشباب) في سياق ما يسمى شعبيا بالمعاكسة، وهي لا تخلو من صفير ونهيق ونعيق. والحق أن الشبان البريطانيين أسوأ في هذا من الإيطاليين والإسبان والفرنسيين. وقالت هؤلاء الأجنبيات؛ إنهن فوجئن مفاجأة سارة بما لقينه من الاحترام وحسن المعاملة. والتعليل عندهن أن البلد ذو ثقافة اجتماعية محافظة. أما السبب الأهم في رأيهن، فهو شدة القيود المفروضة على تناول الكحول. إذ المعروف أن كثيرا من حالات المعاكسة والمضايقة والتحرش الجنسي تقع عندما يكون الرجال مخمورين، بل ومعظم الجرائم.

وفي مجال تعميم الحرية الجنسية (إلى حد الاعتراف بكل الممارسات والنزوات ورفعها إلى مقام الهويات السياسية، مثلما تدل على ذلك سطوة إيديولوجيا «الجيبيتي» التي يريد الغرب الآن فرضها على بقية العالم، بزعم أنها من حقوق الإنسان)، ما هو إلا تقدم ظاهري لا جوهري.

المثال الثاني الذي أبرزه المونديال، عن العادة أو الخصلة الثقافية التي نعيشها يوميا دون أن ننتبه إليها حتى يلاحظها الأجنبي، هو ما ذكرته جريدة «التايمز» البريطانية في مقالين مختلفين عن شدة محبة لاعبي المنتخب المغربي لأمهاتهم. رأينا مشهد احتضان اللاعبين المغاربة، مثل أشرف حكيمي وسفيان بوفال، وحتى المدرب وليد ركراكي، لأمهاتهم وتقبيل رؤوسهن (ولعل بوفال قد فاق الجميع بتلك المراقصة الجميلة لوالدته على عشب الملعب). 

رأينا المشهد مرارا بعد كل فوز مغربي، وكان ذلك من المشاهد المتنوعة لفرحتنا العربية الكبرى من المحيط إلى الخليج، لكن لا أذكر أن أي أحد من عائلتي أو أقربائي أو أصدقائي العرب رأى فيه شيئا غير متوقع أو مثيرا للتعليق. أليس حب الأم من طبائع الأشياء؟ وهل ثمة ما هو أجمل من أن يحضن المرء أمه فيقبل رأسها؟ وهل ثمة من هو أولى من الأم بأن تقاسم ابنها فرحته؟ أو ليست الأم في ديننا هي الأولى ثلاثا: أمك، أمك، أمك ثم أبوك؟
أمور تبدو لنا عادية أو بديهية.

لكن «التايمز» لم ترها بعيون الاعتياد؛ أولا لأنها استبانت أنه رغم أن محبة الأمهات ظاهرة إنسانية عامة، فإن الظاهرة درجات؛ أي إنها لا تتساوى فيها بالضرورة جميع الثقافات. وثانيا لأنها قارنتها بظاهرة بريطانية، وغربية عموما، فلاحظت أن محبة اللاعبين المغاربة لأمهاتهم، قد منحت المشاهدين الغربيين مشهدا محييا منعشا؛ لأنه مغاير تماما لما اعتادوه من هوس اللاعبين الإنكليز بالزوجات والصديقات (أي ظاهرة « الـ wags» الشهيرة، حسب التسمية الاختصارية التي سمتهن بها الصحافة، فشاعت في الكلام الشعبي)، وما يصحب ذلك من توافه القيل والقال والحكايا والقضايا (حيث وصلت الخصومة بين اثنتين منهن أخيرا إلى المحاكم في مسلسل طويل، لم يكن الإعلام يمل من إتحاف الجمهور بحلقاته السمجة).

وكما أن مونديال 2022 قد كان مونديال فلسطين والعروبة سياسيا، ومونديال احترام المرأة والبر بالأمهات ثقافيا، فإنه كان مونديال المغرب الذي أشرق على العالم إشراق الشمس رياضيا وشعبيا.

ولقد أجادت «نيويورك تايمز» عندما كتبت أنه بصرف النظر عمن سيرفع الكأس غدا الأحد، فإن «هذا سيبقى مونديال المغرب على الداوم»: المونديال الذي كرس ريادة المغرب «فاتحا للدروب ومحطما للأرقام ورافعا منارة عالية لا يخبو نورها».

القدس العربي
التعليقات (0)