مقالات مختارة

العدل أساس الملك وضحيته أيضا

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600
ما أكثر ما قيل عن «العدالة» وقداستها، وما أقوى الشعارات التي ترفعها الدول لتأكيد التزامها بمبدأ العدالة. وهل هناك محكمة في أية دولة عربية لا يُكتب على واجهتها «العدل أساس الملك»؟ أوَليس الميزان بكفتيه المتعادلتين شعارهذه العدالة؟

والسؤال هنا: هل العدالة ممارسة حقيقية لدى حكومات العالم؟

هل يُعامَل البشر في الاتفاقات الدولية على أساس واحد؟ هل التعويضات التي تدفع لقضايا القتل الخطأ متساوية، أم إن هناك ضحايا أغلى ثمنا من ضحايا أخرى؟ يمكن القول إن العدالة هي أكثر المفاهيم تضررا من الدعاية البشرية، وأن الظلم عميق في نفوس البشر، كما قال الشاعر العربي:
والظلم من شيم النفوس
ومن يكن ذا عفّةٍ، فلِعلّةٍ لا يَظلم

قبل عام تقريبا، دفعت الحكومة البريطانية تعويضا لبعض الضحايا المدنيين في أفغانستان الذين فقدوا حياتهم بأيدي قواتها.

وقالت وزارة الدفاع البريطانية؛ إن مجموع ما دفعته على مدى ثماني سنوات (2006 ـ 2014) كان 688000 جنيه استرليني، بمعدل أقل من 2400 جنيه لعائلة كل ضحية. وفي حالة واحدة دُفع لعائلة الضحية 104 جنيهات فحسب، وهو أقل مما دفعته للتعويض عن عدد من الحمير التي قتلت بإحدى العمليات العسكرية للجيش البريطاني. بينما دفعت الحكومة الليبية في العام 2008 لعائلات ضحايا لوكربي التي حدثت في العام 1988 في شمال إنكلترا وقتل فيها حوالي 270 أمريكيا، تعويضات بمليارين و 700 مليون دولار، أي عشرة ملايين دولار لكل شخص فقد حياته في الحادثة.

وفي المقابل، دفعت الولايات المتحدة تعويضات للركاب الإيرانيين الـ 248 الذين فقدوا حياتهم في العام نفسه، عندما أسقطت القوات الأمريكية في العام نفسه طائرة الإيرباص، التي أقلعت من مطار بندر عباس متوجهة لدبي. فكان نصيب عائلة القتيل الذي كان موظفا 300 ألف دولار، ونصف ذلك المبلغ لمن كان من الضحايا عاطلا عن العمل. أهذه هي العدالة التي يمارسها إنسان القرن العشرين؟
لقد ثار المناضلون ضد ما يعتبرونه ظلما سواء على مستوى التشريعات أو الممارسة.

وقد ارتبط اسم الإمام الخميني برفضه في العام 1964 ما يسمى «قانون الحصانة»، الذي أقره البرلمان الإيراني في زمن الشاه آنذاك. فقد نص ذلك القانون على حماية الأمريكيين العاملين في إيران من المثول أمام محاكمها عندما يرتكبون أية جريمة.

وقد انتهجت الولايات المتحدة سياسة رفض الاتفاقات مع الدول الأخرى، إلا إذا احتوت بندا يوفر الحصانة للأمريكيين من قوانين تلك الدول. وتعتبر اتفاقات «صوفا» واحدة من أبشع أساليب تقنين الظلم؛ لأنه يستثني صنفا من البشر من المثول أمام أجهزة القضاء في البلدان التي يرتكبون فيها جرائم.
في الأسبوع الماضي حدث أمر مماثل؛ فقد رفضت الحكومة الأمريكية تسليم إحدى موظفاتها للمثول أمام القضاء البريطاني، بعد قتلها مواطنا بريطانيا في حادث سير قبل أربعة أعوام.

ففي آب/ أغسطس العام 2019 صدمت السيدة آن ساكولاس، وهي جاسوسة أمريكية سابقة وزوجة جوناثان ساكولاس، الموظف بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) الشاب البريطاني هاري دان، ذا الثمانية عشر ربيعا. كانت السيدة تسوق سيارتها في الجانب الخطأ من الشارع، بينما كان يقود دراجة نارية في الاتجاه العكسي بالشارع نفسه.

واستخدمت «الحصانة الدبلوماسية» لرفض تسليم نفسها للشرطة البريطانية، وبعد 19 يوما تم تهريبها إلى بلدها، ولكن عائلة الشاب أصرت على ملاحقتها قضائيا. ورفضت السلطات الأمريكية تسليمها، وتحت الضغط الدبلوماسي البريطاني، وافقت السيدة الأمريكية على المثول بالفيديو أمام محكمة أولد بيلي البريطانية، التي أصدرت الخميس الماضي حكما بالسجن ثمانية شهور، مع وقف التنفيذ لمدة عام.

ولم يحدث ذلك إلا بعد جهود مضنية من والدة الضحية التي رفضت التخلي عن القضية. وليس صعبا ملاحظة المراعاة غير المألوفة في إصدار الحكم المخفف على الجانية، وعدم تنفيذه. فهل كان هذا الحكم سيصدر بحق الجاني لو كان من دولة أخرى غير الولايات المتحدة؟ أليست العدالة هنا مسيّسة إلى حد كبير؟ لا شك أن القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية تؤدي دورا كبيرا في مجرى العدالة، الأمر الذي يؤكد نسبيتها وإخضاعها للمساومة، وفي بعض الأحيان، استخدامها سلاحا من قبل «القوي» ضد «الضعيف».

للقوة دور محوري في سير العدالة، وقد أطلق مصطلح «عدالة المنتصر» على الأحكام التي أصدرها الحلفاء بحق الضباط الألمان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في ما سمي «محاكمات نورومبيرغ» وأعدم العديد منهم. العدالة هنا تسير وفق مزاج صاحب القوة العسكرية المنتصرة، أما المغلوب، فعليه ألا ينتظر عدالة حقيقية أو إنصافا. صاحب القوة يفرض موقفه وإرادته وقراره، ويسعى الآخرون لنيل رضاه. القوة هنا هي معيار بقاء المجرم في السجن أو خارجه. وخطب ود القوي يمثل جانبا آخر من المشهد.

سيظل عنصر القوة (السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية) أساسا في تحديد مدى تمتع الإنسان العادي بحقوقه وسلامته أو حرمانه منهما. ففي الأسبوع الماضي، قتلت القوات الإسرائيلية ثمانية فلسطينيين على الأقل، ليتجاوز عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي منذ بداية العام المائتين. لم يتحدث عن هؤلاء أحد في الدوائر السياسية الدولية، ولم تصدر تصريحات من «العالم الحر» لشجب القتل المتواصل لأبناء فلسطين. ولكن وفاة مواطنة إيرانية في السجن كان كفيلا بإحداث ضجة إعلامية وسياسية من ذلك العالم.

إن من الخطأ الكبير التقليل من أهمية وفاة الفتاة المذكورة، فكل روح لها قيمتها ولا يحق لأحد قتلها خارج إطار القضاء، ولكن لماذا الصمت المطبق على القتل الجماعي لأطفال فلسطين وشبابها ونسائها؟ لماذا لا يذكرهم أحد؟ لماذا ينحصر الاهتمام بهم بعويل أمهاتهم فحسب؟ أليسوا بشرا؟ هل هناك مستويات مختلفة لقيمة الانتماء للبشرية والإنسانية؟ لماذا لا يرى أحد في حمل قضيتهم مصدرا للفخر والتباهي؟ بينما تبذل الجهود بدون حدود للإفراج عن مواطنة أمريكية اتهمت بتهريب المخدرات، ثم نقلها على متن طائرة خاصة؟ تبدو العدالة هنا ضربا من الخيال والوهم؛ لأن الوساطات من الوجهاء ذوي النفوذ المالي والسياسي تصادر سير العدالة ومجراها، وتقفز على الحقائق لتؤكد أن العدالة يمكن شراؤها أو بيعها بالمال والنفوذ والصفقات وتطوير العلاقات.

في هذا العالم الذي تهيمن عليه القوة ووسائل العدوان، لا مكان لمساءلة المجرمين. فما إن رفعت قناة «الجزيرة» قضية مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة للمحكمة الجنائية الدولية، حتى صدر الرد الإسرائيلي بدون تردد. فقال رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد؛ إنه لن يتم السماح لأحد بالتحقيق مع جنود إسرائيليين، مضيفا: «لن يحقق أحد مع جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، ولن يعطينا أحد دروسا في أخلاقيات القتال، وبالتأكيد ولا شبكة الجزيرة».

المسؤول الإسرائيلي أراد إرسال رسالة واضحة بأن شيرين أبوعاقلة لا تختلف عن بقية الفلسطينيين من حيث عدم الأهمية، فالجميع إنما خلقوا للقتل والتشريد، ولا مكان لهم في عالم تهيمن عليه الذئاب والوحوش المفترسة. وبدلا من تشجيع اللجوء للقضاء الدولي، شجبت واشنطن لجوء قناة «الجزيرة» لمحكمة الجنايات الدولية. ويكفي للعدالة أن تنحر على مسلخ زعماء العالم الحر. وهكذا تصبح العدالة خاضعة للقرار السياسي وليست مطلقة.

مرة أخرى، أصبح على العالم الذي احتفى قبل يومين باليوم العالمي لحقوق الإنسان، إعادة النظر في ثوابته الأخلاقية وأنظمته القضائية، بعد أن أصبحت أدوات فحسب وليست مبادئ ثابتة. فمن للمظلومين؟ ومن لضحايا التنكيل والتعذيب والاحتلال؟ من للإنسانية والأخلاق والضمير في عالم القرن الحادي والعشرين؟ من ينقذ العدالة من وحشية القرن الحادي والعشرين؟

القدس العربي
التعليقات (0)