تتزاحم، وبشكل واضح، الأزمات العراقيّة، الداخليّة
والخارجيّة، ومع أيّ مُعضِلة سياسيّة وأمنيّة وقانونيّة جديدة، تدخل البلاد بدوّامات
اللجان التحقيقيّة التسويفيّة وغير المُثمرة، أو بدهاليز التجاهل الرسميّ المُتعمّد
للجرائم الخطيرة المُهلكة، ولتبعاتها الإنسانيّة والقانونيّة.
وبرز في
العراق منذ ثماني سنوات مُصطلح "الاختفاء
القسريّ"، وبالذات في محافظة
الأنبار الغربيّة، بالتزامن مع المعارك ضدّ "داعش"
والهجرة الجماعيّة الاضطراريّة لأهالي المحافظة، نهاية العام 2015؛ هربا من
الصواريخ الجوّيّة والأرضيّة الحارقة، وبحثا عن ملجأ آمن.
وبدأت مأساة "الاختفاء القسريّ"
مع انطلاق رحلات الهروب الجماعيّ للعوائل من مَحرقة الأنبار، وكانت البداية حينما عُزِل
مئات الرجال عن عوائلهم بحجّة التدقيق الأمنيّ لساعات معدودة، ومِن يومها اختفى
أثرهم جميعا.
برز في العراق منذ ثماني سنوات مُصطلح "الاختفاء القسريّ"، وبالذات في محافظة الأنبار الغربيّة، بالتزامن مع المعارك ضدّ "داعش" والهجرة الجماعيّة الاضطراريّة لأهالي المحافظة، نهاية العام 2015؛ هربا من الصواريخ الجوّيّة والأرضيّة الحارقة، وبحثا عن ملجأ آمن.
ولاحقا بحثت عوائلهم عنهم بكلّ السُبل
القانونيّة والرسميّة وغير الرسميّة، ولكنّهم وصلوا لطرق مسدودة، ومع ذلك تَشبّثوا
بالأمل والحلم لعلّهم يجدون خَيْطا يقودهم لذويهم المُغيّبين.
وفي مثل هذه الأيّام من العام 2015، أكّد بعض
نُوّاب الأنبار وقوع عمليّات خَطْف للرجال بالمناطق الخاضعة لسيطرة الجيش والشرطة
والمليشيات.
وحينها قالت البرلمانيّة السابقة "لقاء
مهدي"؛ إنَّ عمليّات خَطْف نازحي الأنبار وقعت بين الرزازة والحبانية، وعند
جسر بزيبز الرابط بين الأنبار وبغداد، وأنّ "عدد المُختطفين بلغ (1200) مُختطف".
وغالبيّة المسؤولين المدنيّين والعسكريّين
يَعْرفون
المليشيات التي نَفّذت جرائم الاختطاف، لكن لا أحد يَجرؤ على تحريك هذا
الملفّ ضدّها.
والقضيّة الأخطر في هذا الملفّ، أثارها
رئيس مجلس النوّاب العراقيّ محمد الحلبوسي في مقابلة مع فضائيّة الرشيد، في السابع
من كانون الأوّل/ ديسمبر الحاليّ، حينما كشف اللثام عن معلومات قاتلة، وأجهض خلالها
مئات الآمال عندما فجّر القنبلة الموْقوتة منذ ثماني سنوات، بتصريحه: "هنالك تضليل
لعوائل المُغيّبين بين عامي 2014 - 2016، ويجب أن نُصارح الناس بحقيقة المُغيّبين،
ونُغيّر اسمهم أولا إلى المغدورين وليس المُغيّبين: مغدورون فارقوا الحياة، ولا
ينبغي منح أهلهم أملا بعودتهم".
وقد أكّد الحلبوسي "ضرورة تعويض
الأهالي ماليّا"، وكأنّنا نتحدّث عن بساتين محروقة وبيوت مُهدّمة وسيّارات مُحطّمة،
وكأنّ القضيّة لا تتعلّق بمواطنين لهم كيانهم وعوائلهم وأحلامهم وأمنياتهم.
ثمّ كيف أصبحوا فجأة في عِداد الموتى؟ فمَنْ
الذي قتلهم، والشهادات المتواترة من عوائلهم تُؤكّد أنّهم اعتقلوا بمناطق بزيبز وغيرها
وعلى مرأى ومسمع من عوائلهم للتدقيق الأمنيّ، ويفترض خلال ساعات أن يلتحقوا بذويهم؟
فأين قتلوا، وكيف قتلوا؟ ومَنْ الذي أعطى
أوامر القتل وغيرها من الجوانب التحقيقيّة التي ستقود حتما لمعرفة الجناة؟
ولماذا هذا التقليل من شأن الإنسان؟
والمُتابعون للشأن العراقيّ شاهدوا بين
عامي 2014 و2016 عشرات المقاطع المُصوّرة التي تُظْهِر أفراد مجموعات مسلّحة مدنيّة
تعتقل الرجال النازحين وبوجوه مَكْشوفة ومَعْلومة، ويُمكن التعرُّف عليهم والتحقيق
معهم لمعرفة مصير المُعتقلين.
وكيف يُمكن تفّهم حادثة الإفراج عن "المُغيّب"
صالح العلواني (أبو مهدي)، الذي أكّد بداية العام 2019 في لقاء مع فضائية الفلوجة، أنّهم
"أُخذوا من الرزازة إلى جرف الصخر، وتفرّقوا بعدها في أماكن مجهولة".
وهذا يعني أنّهم بقوا على قيْد الحياة
لأربع سنوات تقريبا، فمتى قتلوا، ومَنْ قتلهم لاحقا؟
كان يفترض أن تكون هنالك ضجّة "أنباريّة"
كبيرة مواكبة لتصريحات الحلبوسي الناريّة، لكنّنا تابعنا اجتماع بعض المسؤولين بالأنبار
وعشرات المُقرّبين، بعد يومين، للاستمتاع بحفل غنائيّ، وكأنّهم لا علاقة لهم بهموم
المحافظة ومأساة المُغيّبين وعوائلهم!
الحقيقة، أنّ تصريح الحلبوسي يُعدّ كلاما مفصليّا في قضيّة كانت تُعرف بموجب البيانات الحكوميّة وغير الحكوميّة والمنظّمات الحقوقيّة، باسم "المُغيّبين القسريّين". فهل كانت تلك الخطابات مُزيّفة وتخديريّة وتتلاعب بمشاعر الناس؟ وربّما "نجحت" بمرور الزمن بإيصالهم لمرحلة اليأس والقنوط من العثور على آثار المختفين قسريّا.
فهل حياة أهالي الأنبار رخيصة لهذا
المستوى؟
ثمّ ما واجب الحكومة والبرلمان والقضاء إن
لم يُلاحقوا الجماعات الشرّيرة التي قتلت المُختطفين بطرقات التهجير، ودهاليز
المعتقلات السرّيّة؟
والعجيب أنّ تصريح الحلبوسي جاء بعد أسبوعين
من تأكيد لجنة الأمم المتّحدة المعنيّة بالاختفاء القسريّ (CED)، بأنّ "المعلومات المتوفّرة في العراق لا تسمح بقياس حجم جريمة الاختفاء، وأنّها
سجّلت (555) إجراء عاجلا يتعلّق بوقائع حدثت في البلاد"، وستنشر اللجنة
تقريرها النهائيّ في آذار/ مارس 2023.
والحقيقة، أنّ تصريح الحلبوسي يُعدّ كلاما
مفصليّا في قضيّة كانت تُعرف بموجب البيانات الحكوميّة وغير الحكوميّة والمنظّمات
الحقوقيّة، باسم "المُغيّبين القسريّين".
فهل كانت تلك الخطابات مُزيّفة وتخديريّة
وتتلاعب بمشاعر الناس؟ وربّما "نجحت" بمرور الزمن بإيصالهم لمرحلة اليأس
والقنوط من العثور على آثار المختفين قسريّا.
إنّ سياسة تجاهل ضياع حياة آلاف المواطنين
والتغافل عن مشاعر عوائلهم صادِمة جدا!
والمخرج الأوّل لهذه الأزمة الإنسانيّة
والقانونيّة، يكون بتشكيل لجنة وطنيّة تَضمّ مُمثّلين عن الحكومة والبرلمان والمنظّمات
الحقوقيّة لتقصي الحقائق، وهذه صعبة التحقيق بسبب العقبات المُتوقّعة في دواليب
اللجنة؛ كون غالبيّة المُتّهمين مُرتبطين ببعض القوى السياسيّة والمُسلّحة الفاعلة.
والمخرج الثاني والمُمكن، يكون بتشكيل لجنة
دوليّة برئاسة مكتب الأمم المتّحدة بالعراق، وتَضمّ مُمثّلين عن البرلمان وحكومتي
بغداد والأنبار وعشائر المُغيّبين ومنظّمات حقوقيّة، عراقيّة وأجنبيّة، مُختصّة لتقصي
الحقائق وللوقوف على الأطراف المُنفّذة لجرائم "الاختفاء القسريّ"
البشعة، وتكون نتائجها مُلزمة للجميع، وتتمّ مُحاسبة المُتورّطين كافة بلا استثناء.
صدقا، إنّ العدل أساس المُلْك، ومَنْ يُحاول
بناء الدولة بجماجم وهياكل الأبرياء فلن تدوم دولته؛ لأنّ الحُكم القائم على الظلم
لا يدوم.
twitter.com/dr_jasemj67