هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم تكن تلك عبارة عابرة لنجل سياسي اشتهر ببذاءته في مخاطبته للآخرين بقدر ما كانت تعبيراً عن مزاج عام ونظرة للجيش من قبل أقطاب حكومة تستعد لتسلم القيادة والتحكم بأذرع الدولة.
لم تكن تغريدة يائير نتنياهو بعيدة عن الغضب على قائد الكتيبة الذي أمر بالتحفظ على جندي في الكتيبة لعشرة أيام لأنه اعتدى على ناشط يساري بالخليل مهدداً باسم بن غفير القادم لتأديب اليسار، وهي ما أشعل وسائل التواصل الاجتماعي تحريضاً على مسؤول الكتيبة شتماً ونشر عنوان بيته للتظاهر أمام منزله وذهاب بن غفير لالتقاط صورة مع والد الجندي.
رياح جديدة تهب على إسرائيل بعد الانتخابات الأخيرة تنذر بتغيير شامل للأسس التي قامت عليها والتي حاولت المؤسسة الحفاظ عليها وهي تقلد الأوروبيات الغربية التي أنشأت فكرة إسرائيل. لكن الأمر يبدو أنه بدأ مع حالة شعبوية قومية تغرق في ثقافة عتيقة وهذا يحدث لأول مرة.
صحيح أن الأمر هنا يجعل من الفلسطينيين ضحية الفكرة المتطرفة أول من يدفع ثمن القادم باعتبار أن التأصيل التوراتي لها على النقيض تماماً مع «الغوييم» في «أرض التوراة»، وهو ما يمكن قراءته في سياق آخر لم يدرك الفلسطينيون حجم تداعياته الكارثية بعد وإلا لما بقي هذا الاستهتار والانقسام بعد صعود أصحاب الفكرة لكن في الخلل الذي أصاب أولوياتهم ما يطمئن إسرائيل على مستقبلها طويلاً.
لكن التداعيات على اليهودية لن تكون أقل وطأة سواء للداخل الذي بدأ تخيلاته السوداوية والتي كانت تكفي الإشارات والرسائل التي تم إرسالها خلال الشهر الأخير بعد الانتخابات للإدراك بأن الدولة ذاهبة نحو ثيوقراطية متخلفة ستنسحب على كل مكوناتها في القانون والشرطة والتعليم، والجيش الذي بدأ يتلقى الإهانات وهو ليس جيش الأم تيريزا فخلال العام الحالي تلقى هذا الجيش قدراً من الانتقادات الدولية لممارسته للعنف المفرط ضد الفلسطينيين، ومع ذلك يبدو بنظر بن غفير ونجل نتنياهو جيشاً يسارياً متراخياً.
يتعلق الأمر بنشوة النصر وبداية مرحلة تعود فيها القيادة لممثلي «يهوه» بعد أن اختطفها العلمانيون الكفار لأكثر من سبعة عقود، ومن أجل الحفاظ عليها ينبغي تنظيف الدولة من بقايا هؤلاء في المؤسسات القضائية والعسكرية وكل مكوناتها، وهو ما يعني بناء دولة التاج وبدء مرحلة تنتهي فيها حالة التوازن المجتمعي الذي حفظه القانون لصالح سيادة هوية أكثر عمقاً.
بكل الظروف تنهي عملية هندسة الدولة القديمة التي قامت على دمج المهاجرين من كل العالم حين كان هذا تحدي البدايات ليكتشف دافيد بن غوريون أن عماد الدولة سيكون الجيش وسيعتبر بوتقة الصهر، ومنذ سنوات بدأت تزحف حالة دينية داخل هذا الجيش وصلت قبل سنوات لفرض ثقافة الفصل بين الجنسين في أحد الاحتفالات وهو ما سماه البروفيسور ياعيل ليفي «ثقرطة الجيش» وهو يصف تأثير حاخامات الصهيونية الدينية الذين يشغل بعضهم رئاسة مؤسسات تحضيرية للخدمة العسكرية أو رئاسة المدارس الدينية على الجيش، وينتهي ذلك بتعزيز قوانين الشريعة على حساب قوانين الدولة العلمانية.
الخلاف مع رئيس الأركان هو خلاف بين ثقافتين حسم بالتأكيد لصالح الحالة الدينية، وسينسحب هذا على كل مكونات الدولة التي أصبحت تحت قبضة الحاخامات ولدى ممثليهم وأصبحت كل الإمكانيات تحت تصرفهم على بقايا العلمانية وعلى القانون وعلى من يختلف معهم. ستشهد إسرائيل قدراً من الخلاف الداخلي الذي يعني تصدعات سيشهدها المجتمع والدولة.
لن يتوقف الأمر عند حدود تصدعات داخلية ستجر إسرائيل للوراء مع سيطرة قوانين الشريعة، بل إن هناك ما هو أبرز في تداعيات صعود التيار الديني على صعيد العلاقة مع يهود العالم وتحديداً يهود الولايات المتحدة الذين حاول نتنياهو تهدئتهم في لقاء متلفز في الولايات المتحدة وطمأنتهم بأن الليكود هو من يضع السياسات. لكن نفوذ الشريعة المتنامي أقوى كثيراً من محاولاته التوفيقية لأن هناك ما هو أبعد في مسار إسرائيل الصاعد نحو الدين.
يكمن السر في التباعد المتنامي بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة والذين اتهمهم ترامب بأنهم لا يحبون إسرائيل، وهو تباعد بدأ منذ سنوات طويلة يتناسب طردياً مع الانزياح في المجتمع الإسرائيلي نحو الدين وزحف التيارات الدينية نحو الحكم وفرضها قوانين دينية. ويكمن الخلاف بين تيارات اليهودية بأن إسرائيل تنتمي لليهودية الأرثوذوكسية بينما يهود الولايات المتحدة ينتمون لليهودية المحافظة، وهو الخلاف المذهبي الذي كان يمكن احتواؤه سابقاً بحكومات علمانية.
الأزمة الأكبر التي ستحدث الشرخ مع يهود العالم هي الخلاف المتصاعد حول قانون الأحفاد الذي سمح لحفيد اليهودي بالهجرة إلى إسرائيل حتى لو لم يكن الأب يهودياً. يطالب سموتريتش بإلغاء هذا القانون ما أثار غضب يهود العالم بحرمان أحفادهم من حق الهجرة.
هناك تحولات هائلة تشهدها دولة إسرائيل داخلياً وخارجياً تظهر لأول مرة. لذا كان من الخطأ تشبيه نتائج الانتخابات الأخيرة بنتائج صعود الليكود في نهاية سبعينيات القرن الماضي حيث بقيت الدولة كما هي في قبضة العلمانيين ولم يكن لليكود أي تأثير يذكر على بنيتها. لكنها الآن تشهد انقلاباً حقيقياً على الدولة القائمة سيطال شكلها وصورتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية بين اليهود، وسيمتد تأثيره على علاقات إسرائيل مع العالم.
(الأيام الفلسطينية)