كتاب عربي 21

العنف والاستبداد ليسا قدر الشعوب الإسلامية

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
كنت في ضيافة "معهد قرطبة للسلام" بجنيف، وهو منظمة سويسرية احتفلت هذه الأيام بمرور ثلاثين عاما على تأسيسها. وما قامت به هذه المنظمة طيلة مسيرتها القصيرة نسبيا يتجاوز حجمها وإمكانياتها البشرية والمالية، ووضع المعهد هدفا استراتيجيا له "الوقاية من العنف، ترشيد الخلاف وتعزيز السلم".

أن تتصدى جمعية أو جهة ما لمعالجة تحديات وعقبات السلام في منطقة حساسة مثل العالم العربي والاسلامي فتلك مهمة ليست هينة، خاصة وأن العديد من النزاعات التي تندلع من حين إلى آخر ذات طبيعة معقدة يتداخل فيها السياسي بالديني والقبلي والاقتصادي، وهو ما يتطلب قدرا عاليا من التبصر والحكمة والوعي والصبر. وقد نجح معهد قرطبة في التعامل مع عديد الملفات التي شغلت ولا تزال المنطقة بحكوماتها ونخبها وشعوبها، معتمدا في ذلك على آليات الحوار وحسن الاستماع وتوسيع قاعدة المشترك. وخلافا لما يعتقد الكثيرون، فإن المشترك موجود بين الناس مهما اختلفوا وهو قابل لتطوير محتوياته وتوسيع دوائره، المهم أن تتوفر الإرادة ويتخلى المتحاورون عن التعصب المدمر لقيم التسامح والتعايش.

بهذه المناسبة دعي الجامعي التونسي أحميدة النيفر لعرض كتابه الجديد الذي صدر تحت عنوان "العالم والزعيم". ويعالج الكتاب مضامين الرسائل المتبادلة بين جد المؤلف الشيخ النيفر والرئيس الحبيب بورقيبة خلال مرحلة تأسيس الدولة الوطنية، حوار دار بين عقليتين متناقضتين من حيث الرؤية والمنهج.. عالم زيتوني يريد أن يفهم الأسباب التي دفعت بورقيبة نحو اختيار العلاج الجذري لتغيير وضع متداع للسقوط مثل إلغاء الزيتونة والمراهنة كليا على تعليم حديث يتخذ من النظام الفرنسي نموذجا يقتدي به، وفي المقابل زعيم حريص على استغلال الظرف التاريخي ليتخذ جملة من الإصلاحات التي كانت تسكن مخياله منذ أن كان طالبا في السوربون. لم ينجح الحوار بين الرجلين، ولم تنجح محاولة الوصول إلى تسوية تاريخية كان البعض يعتقدون إلى اليوم بأنها ممكنة.

يعود اهتمام معهد "قرطبة" بعلاقة الديني بالسياسي إلى وعي المسؤولين عليه بأن هذا الإشكال لا يزال يمثل أحد محاور الصراع والانقسام في الشرق الأوسط. لهذا وضع المعهد من بين أهدافه "معالجة الاستقطابات والتوترات بين الفاعلين المسلمين بمختلف مرجعياتهم الدينية في السياقات المحلية لدول الشرق الأوسط"، أيضا العمل على الحد من التطرف العنيف بين الشباب المسلم من خلال "زيادة الوعي بالخطاب الإسلامي الوسطي".
اعتقدوا بأن الانتقال السياسي أصبح مضمونا. لم يتوقعوا أن تختلط الأوراق من جديد، وسيتغير اتجاه الريح، وستبرز معادلة جديد، وسيعود الحكم الفردي بسرعة عجيبة لتجد تونس نفسها مرة أخرى في معركة الدفاع عن الحريات، وتعود الأطراف السياسية والثقافية والاجتماعية إلى الاستقطاب الثنائي والتناحر الأيديولوجي من أجل الحكم، على حساب تونس ومصالح شعبها

وتم في هذا السياق تنفيذ برنامج متنوع، شارك فيه عدد واسع من الفاعلين من مناطق متعددة، بما في ذلك من دول جنوب الصحراء الأفريقي. وتولت وزارة الخارجية السويسرية دعم هذا البرنامج الطموح من خلال قسم "الدين، السياسة، النزاع" التابع لها.

اهتمام معهد قرطبة بتونس ليس جديدا، إذ سبق له أن حاول مواكبة الانتقال الديمقراطي، ونفذ برنامجا بالتنسيق مع منتدى الجاحظ، كان الهدف منه السعي لتقييم التجربة من زاوية العلاقات الممكنة بين مكونات النخبة بتياريها الأساسيين؛ الإسلاميين من جهة والعلمانيين من جهة أخرى. كما تعاون المعهد مع "رابطة تونس للثقافة والتعدد".

تم الاهتمام بتونس بعد تجربة الترويكا، وصعود حزب نداء تونس إلى السلطة. ويبدو أن الحوار الذي دار بين سياسيين ومثقفين قريبين من المشهد السياسي، بمن في ذلك البعض ممن تحملوا مسؤوليات في الحكومات السابقة، جعل المسؤولين في هذا المعهد يطمئنون نسبيا على مستقبل التجربة التونسية، ويظنون بأنها سلكت طريقا يصبح من الصعب التراجع عنه. صحيح أنهم لاحظوا أن المسافة بين الفريقين لا تزال عميقة ومحفوفة بالمخاطر، خاصة بين حركة النهضة وعموم اليسار الراديكالي، لكن كانوا يتوقعون بأن التقدم في المسار الديمقراطي كفيل بتذويب الخلافات وتنضيج الفريقين، واعتقدوا بأن الانتقال السياسي أصبح مضمونا. لم يتوقعوا أن تختلط الأوراق من جديد، وسيتغير اتجاه الريح، وستبرز معادلة جديد، وسيعود الحكم الفردي بسرعة عجيبة لتجد تونس نفسها مرة أخرى في معركة الدفاع عن الحريات، وتعود الأطراف السياسية والثقافية والاجتماعية إلى الاستقطاب الثنائي والتناحر الأيديولوجي من أجل الحكم، على حساب تونس ومصالح شعبها.
سيبقى التحدي الرئيسي في تونس وفي دول المنطقة يتمثل في توفير الضمانات الكفيلة "بترقية الحوار وتمكين الناس من الوقاية من العنف ومن ترشيد الخلاف في المجتمعات التي يعيش فيها مسلمون".

سيبقى التحدي الرئيسي في تونس وفي دول المنطقة يتمثل في توفير الضمانات الكفيلة "بترقية الحوار وتمكين الناس من الوقاية من العنف ومن ترشيد الخلاف في المجتمعات التي يعيش فيها مسلمون". لا يعني ذلك أن المسلمين يشكلون بالضرورة عقبة أمام قيمة التعايش، لأن هناك آخرين من أديان أخرى يصدر عن بعضهم سلوك عنيف ورافض للحق في الاختلاف، لكن ذلك لا يقلل من خطورة الأفكار والسياسات التي يمكن أن تهدد الاستقرار والتعايش وتجعل الدين ضد الحرية.

هناك مفاهيم لا تزال تفعل فعلها لتبرير الإقصاء والفرز الديني والاجتماعي في العديد من الدول والساحات، وهو ما جعل الديمقراطية متعثرة إلى حد الآن في المجتمعات العربية والإسلامية، مما دفع بالبعض للتأكيد على حتمية "الاستعصاء الإسلامي". وهو منهج قاصر لتفسير ظاهرة الاستبداد، رغم أن تجارب هنا وهناك تأتي لتدعم هذه الفرضية، وتجعل أصحابها يحاولون أن يجعلوا منها "حتمية تاريخية". وآخر حججهم ما يحصل في تونس التي يصفونها بآخر محاولة فاشلة للرهان على التحرر من الاستبداد، لكن الشعوب ستثبت خلاف ذلك، وستؤكد أن طريق المسلمين نحو الديمقراطية اختيار ممكن.
التعليقات (1)
التصحيح الديني قبل التصحيح السياسي والاقتصادي
الثلاثاء، 08-11-2022 05:23 م
ان الحقيقة الكبرى التي غفل عنها فقهاء الاسلام قديما وحديثا هي ان الاسلام قد دشّن عصر ما بعد الرسالات، أي عصر صلاحية الانسانية للتشريع لنفسها، وبغير ذلك فان البشرية كانت ستبقى دائما بحاجة الى انبياء جدد. لقد انعزلت أمة العرب عن بقية امم الارض المتحضرة لمئات السنين. وكان من نتائج هذا الانعزال، عجزها شبه التام عن انتاج المعرفة. وكانت الثقافة الدينية الموروثة الخاطئة هي السبب الرئيسي في هذا الانعزال، بسبب التناقضات الكثيرة الموجودة كتب الموروث الديني مع ايات التنزيل الحكيم، مما اثر سلبا في تشكل العقل الجمعي العربي. وكان السبب الرئيسي لذلك التناقض هو قيام ائمة المسلمين الاوائل والمعاصرين)، بنقل اسلوب الحياة الدنيوية للنبي وصحابته، على انه جزء من الدين، واعطوا ذلك صفة القداسة والشموليه والعالميه والابديه. فكان من تنيجة ذلك ان اصبحت المحرمات بين ايدينا بالمئات بل بالالاف بدلا عن اقتصارها على الاربعة عشر محرما المذكورة في كتاب الله. فقول الله تعالى في الاية الكريمه (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا .... 151/الانعام) يؤكد ان المحرمات محصورة في الايات المذكورة. وأن الله تعالى هو صاحب الحق الوحيد في التحريم. فكل اوامر النبي عليه الصلاة والسلام ونواهيه هي اوامر ونواهي تحمل الصفة المدنيه ضمن نطاق حكمه المدني من مقام النبوه، وهدفها تنظيم الحلال فيما يتعلق بمجتمعه المدني ودولته المدنيه في زمانه فقط، ولا تحمل صفة الشموليه ولا العالمية ولا الابدية، باستثناء ما كان منها يتعلق بشعائر الصلاة والزكاة، حيث امرنا الله تعالى بطاعة الرسول فيهما بشكل منفرد (واقيموا الصلاة واتوا الزكاة واطيعوا الرسول لعلكم ترحمون). فهل من المقبول بعد ذلك ان يقال ان كل ما قاله واجتهد به العلماء الاوائل والمعاصرون هو من ثوابت الدين؟ وهل كل تفاصيل حياة النبي الدنيوية اليوميه واجتهادات من أتى من بعده من الخلفاء والائمة هي من ثوابت الدين؟ لقد كاد فقهاء الاسلام الاوائل والمعاصرين ان يؤلّهوا رسول الله. وكان من نتائج ذلك أن طغت محورية الحديث النبوي المنقول، على محورية كلام الله تعالى. واصبح ينظر لاحاديث النبي وتشريعاته على انها وحي ثان مواز للتنزيل الحكيم ومطابق له في القدسية، وربما اعلى منه في بعض الاحيان. واستندوا في ذلك على تفسيرهم للاّية الكريمه "وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى". واعتبروا ان تفسيرهم ذلك لهذه الاية هو تفسير نهائي غير قابل للمراجعة ولا للتصحيح، رغم ان هذا التفسير للآّية الكريمة لم يصدر عن النبي، ولم يرد عنه انه قال ان كل ما يقوله هو وحي من الله. ان معظم كتب الموروث الديني ماهي الا صناعه انسانية بحته، بمعنى انها لاتعدو كونها اجتهادات بشرية في حدود ما سمح به السقف المعرفي في العصور الاولى. اما التشريع النبوي الانساني (الصادر من مقام النبوه)، فقد كان ينحصر في تقييد المطلق او اطلاق المقيد ضمن دائرة الحلال الواسعه. فالنبي معصوم عن الخطأ من مقام الرسالة فقط، وليس من مقام النبوة (يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك...) – (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخره...). ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام (وللبشرية من بعده) حق الاجتهاد في التشريع الانساني الدنيوي، دون ان يعطي لذلك الاجتهاد صفة القداسة والشمولية والعالمية والابدية. وكانت تلك هي العلة الكبرى وراء كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين (أي لا نبي بعده). والا، فان البشرية كانت ستكون دائما بحاجة الى انبياء جدد. وباعطائه سبحانه وتعالى للبشرية ذلك الحق فقد قضى بان محمدا عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين. لذلك كله، فأن امة العرب والاسلام في حاجة ماسة اليوم الى قراءة جديدة للتنزيل الحكيم كتلك التي قام بها المفكر الكبير د. محمد شحرور، والتي من شأنها احداث ثورة فكرية دينية شاملة، لتتصحيح القناعات المجتمعيه للعقل العربي. نقول ذلك، مع تسليمنا الكامل بأن كل فكر جديد هو خاضع للقبول او الرفض او التصحيح او التخطئة. ولنتذكر دائما بأنه ليس كل رأي او فكر جديد هو دائما قادم من عدو. وعليه، فاني انصح وبشدة، بالاستماع والاطلاع المتعمق على أفكار هذا العبقري الملهم، لأني أرى فيها حقا احياء للأمة من بعد سباتها الطويل.