في مكّة المكّرمة التي لم تكن قد خرجت من ذهولِها بعد من
حادثة الفيل التي جرت عام 571م، وغدت حديث البلدان المختلفة داخل جزيرة العرب
وخارجها وصولا إلى فارس وروما والحبشة بطبيعة الحال؛ كان الشّاب عبد الله بن عبد
المطلب قد ترك عروسه الشّابة آمنة بنت وهب حاملا وسافر إلى يثرب، حيث أخواله من
بني النّجار يمتارُ التمر لأهله في مكّة.
ماتَ عبد الله على حين غرّة وهو ابن ثمانية عشرَ عاما؛
مات عبد الله دون أن يرى ولده ودون أن يراه ولده، هل مات عبد الله قبل ولادة ابنه
أم بعدها؟ أكثر العلماء على أنّه مات بعد ولادة ابنه وهو بالمهد كما يذكر السّهيلي
في الرّوض الأنف. عموما ليسَ هذا هو المهمّ كثيرا، بل المهمّ أن عبد الله بن
عبد المطلب غدا تحت أطباق الثّرى وابنه الرّضيع محمّد أصبح يتيما في المهد لم يره
أبوه ولم يرَ أباه؛ فكان هذا هو اليتم الأوّل واليتم الأبكر.
اليُتم الثّاني
عندما بلغ رسول الله صلى الله ستّ سنين قرّرت أمّه آمنه
أن تقوم بزيارةٍ إلى يثرب، تريد أن يتعرّف ابنها إلى أخواله من بني النّجار عن قرب،
ولعلّ شوقا استبدّ بها إلى زيارة قبر زوجها الشّاب عبد الله، وبعد أن أقامت في
يثرب أيّاما عددا قفلت راجعةً إلى مكّة المكّرمة حتّى إذا كانت بالأبواء، وهو موضع
بين مكّة والمدينة؛ عاجلها مرضٌ لم يمهلها أبدا ففارقت الحياة ودفنت حيثُ ماتت.
تخيّل أنّ ذلك كانَ حقّا، لتسرّب إلى نفوس الكثيرين من أهل مكّة قبلَ غيرهم أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلّم عندما أعلن دعوته إنّما كان ذلك امتدادا لزعامة جدّه وأبيه، وأنّ له طموحا سياديّا يتجاوز مكّة ليشمل كلّ جزيرة العرب، ولكان في نظر أهل مكّة باحثا عن مُلكٍ ومتطلعا لزعامة متمدّدة، ولكن جاءت مشيئة الله تعالى أن ينشأ هذا الطّفل يتيما بعيدا عن نوازع السّيادة والطموح في المُلك
رجع اليتيم محمّد بن عبد الله إلى مكّة المكرمة وحيدا؛
بلا أب ولا أم، يمشي ابن السنوات الستّ وهو لا يجد حوله أبا حانيا ولا أمّا رؤوما،
يسيرُ من الأبواء إلى مكّة المكرمة، مسافة 200 كيلومتر، في سفرٍ طويلٍ شاقّ ليسَ
معه إلّا الله تعالى، في تهيئةٍ لسفرٍ طويلٍ شاقّ لا يكون معه في شعاب الطريق ووعثاء
السّفر إلّا الله تعالى.
اليُتم الثّالث
في كفالة جدّه عبد المطّلب عاش الطّفل اليتيم، كان
المقرّب من فراش جدّه سيّد مكّة وزعيمها، ولكنّ مشيئة الله تعالى تقتضي ألّا يطول
الأمر؛ فبعد سنتين فحسب وحين بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلّم من العمر ثماني سنوات؛
قضى جدّه نحبه تاركا حفيده يعاين مبكّرا اليتم الثّالث.
ينتقل بعدها اليتيم العظيم إلى حياة التّعب والكدح عند
عمّه أبي طالب كثيرِ العيال قليلِ المال، فلا جاه ولا ثراء، بل فقرٌ وتحمّل مبكر
للمسؤوليّة.
إنّها النبوّة لا الزّعامة
تخيّل لو أنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلّم عاش في كنف
أبيه عبد الله الذي كان من أشدّ الشباب مكانةً عند أهل مكّة المكّرمة، وكان
المؤهّل لزعامة مكّة بعد أبيه عبد المطلب، أو أنّه صلى الله عليه وسلّم ترعرع وكبر
ونشأ في كنف جدّه الزّعيم المهاب عبد المطّلب الذي كان زعيما تشدّ إليه العرب من
كلّ مكان رحالها وتُضرب إليه أكباد الإبل لمكانته وجاهه وزعامته؛ تخيّل أنّ ذلك
كانَ حقّا، لتسرّب إلى نفوس الكثيرين من أهل مكّة قبلَ غيرهم أنّ محمّدا صلى الله
عليه وسلّم عندما أعلن دعوته إنّما كان ذلك امتدادا لزعامة جدّه وأبيه، وأنّ له
طموحا سياديّا يتجاوز مكّة ليشمل كلّ جزيرة العرب، ولكان في نظر أهل مكّة باحثا عن
مُلكٍ ومتطلعا لزعامة متمدّدة، ولكن جاءت مشيئة الله تعالى أن ينشأ هذا الطّفل
يتيما بعيدا عن نوازع السّيادة والطّموح في المُلك.
وفي هذا الإطار نفسه كان أوّل من اعترض عليه عند إعلان
الدّعوة هو عمّه أبو لهب، حتّى ينقطع آخر خيطٍ للظنّ أنّ محمّدا صلى الله عليه
وسلّم باحثٌ عن ملكٍ أو طالب استرداد زعامة بني هاشم على مكّة وتصديرها لتشمل
الجزيرة كلّها.
تمهيد لتحمّل المسؤوليّة الكبرى
بعيدا عن حياة التدلّل والتنعّم عاش رسول الله صلى الله
عليه وسلّم طفولته، بعيدا عن دلال الأب والأم، وبعيدا عن التنعّم بترف الجاه
والزعامة، بل عاش طفولته يُصنَع على عين الله تعالى، يعيش الشّظف، وينخرط في
العمل، ويمارس الأسفار الطّويلة والبعيدة وهو ما يزال طفلا صغيرا، فيتربّى على
معاني تحمّل المسؤوليّة، والجديّة، والرّجولة، وتتوسّع الآفاق والمدارك عند الطّفل
اليتيم كما لا يكون عند غيره من الأطفال الذين يعيشون تحت رعاية الآباء والأمهات؛
فيخسرون فرصة التّكوين تحت ستار الدلال والخوف، وكلّ ذلك تمهيدٌ لتحمّل المسؤوليّة
الكبرى التي تنتظره صلى الله عليه وسلّم.
ولله درّ البوصيري إذ قال في بردته:
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فيِ الأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فيِ الجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فيِ
اليُتُمِ
بعيدا عن حياة التدلّل والتنعّم عاش رسول الله صلى الله عليه وسلّم طفولته، بعيدا عن دلال الأب والأم، وبعيدا عن التنعّم بترف الجاه والزعامة، بل عاش طفولته يُصنَع على عين الله تعالى، يعيش الشّظف، وينخرط في العمل، ويمارس الأسفار الطّويلة والبعيدة وهو ما يزال طفلا صغيرا، فيتربّى على معاني تحمّل المسؤوليّة
بلسمٌ لقلوب اليتامى
في يُتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم سلوى لقلب كلّ
يتيم، ومسح لجراح روحه، ولئن تردّد في قلب اليتيم وهو يتلفت يمنةً ويسرةً فيرى
الأطفال مع أمهاتهم وقد فقدوا آباءهم أو مع آبائهم وقد فقدوا أمهاتهم؛ سؤال يقول:
وما ذنبي أنا حتّى أكون يتيما؛ فقل له: إنّ أحبّ الخلق إلى الله تعالى عاش اليتم
ثلاث مرّات موجعة في حياته، أفلا ترضى أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وهو أعظم الخلق وأحبّ الخلق وأكرم الخلق عند الله تعالى؟
إنّ يتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم تكريمٌ لكلّ
يتيم، ورفع لمعنويّاته، وشدّ لأزره، ومستندٌ لإطلاق همّته وطاقاته في الآفاق.
ولله درّ أمير الشّعراء أحمد شوقي إذ يقول في نهج
البردة:
ذُكِرت باليُتم في القرآن تكرمةً وقيمةُ
اللؤلؤ المكنونِ في اليُتمِ
وما أجمل ما قاله الشيخ يوسف النّبهاني في قصيدته
"طيبة الغرّاء":
ماتَت أمُّ النبيِّ وهو ابن ستٍّ وَأبوه وبيتهُ الأحشاءُ
جاءَ كالدرّةِ اليتيمةِ فرد تيّمَ الكونَ حسنهُ الوضّاءُ
twitter.com/muhammadkhm