كتاب عربي 21

الحركة الحقوقية العربية بين الفرز الأيديولوجي وعدم التمييز بين الضحايا

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
بكل شجاعة ومسؤولية حاول أكثر من ثلاثين ناشطا حقوقيا عربيا أن يحددوا مسؤولية حركة حقوق الإنسان بالمنطقة عن الانتكاسة التي حصلت لما سمي مجازا بـ"الربيع العربي". ففي لقائهم الأخير في العاصمة البلجيكية بروكسل بدعوة من مركز القاهرة لحقوق الإنسان، تعرضوا لمستقبل الحركة الحقوقية في ضوء انعكاسات المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية، ومسؤولية النخب السياسية والمجتمع المدني في فشل الانتقال الديمقراطي، وذلك من خلال التوقف عند تجارب السودان والجزائر وبالأخص تونس.

من الطبيعي أن يتساءل الكثيرون عن موقع حركة حقوق الإنسان في المشهد العربي الحالي. فهي لم تكن غائبة عندما اهتزت الأرض تحت أقدام عدد من الحكام العرب قبل أكثر من عشر سنوات، وسرعان ما غادروا سلطانهم من الباب الصغير. كانت منظمات حقوق الإنسان في مقدمة من مهد لذلك الرحيل التاريخي لأن الكثير منها رفض أن يكون شاهد زور، لهذا أصبح من واجبها التوقف عند الأسباب العميقة التي جعلت أداءها يتراجع بعد ذلك، رغم أن ارتفاع سقف الحريات وانخراط جزء هام من المواطنين في الفعل السياسي. والأخطر من ذلك والأهم أن بعض هذه المنظمات سقطت من جديد في مطب الفرز بين ضحايا الانتهاكات، وفق معايير وحسابات أيديولوجية بائسة بعد أن ظن الجيل السابق من النشطاء أو المؤسس أن الحركة الحقوقية العربية بلغت سن الرشد، وأصبحت محصنة ضد مثل هذه العاهات المدمرة لهوية الحركة ومسارها ومصداقيتها.
بعض هذه المنظمات سقطت من جديد في مطب الفرز بين ضحايا الانتهاكات، وفق معايير وحسابات أيديولوجية بائسة بعد أن ظن الجيل السابق من النشطاء أو المؤسس أن الحركة الحقوقية العربية بلغت سن الرشد، وأصبحت محصنة ضد مثل هذه العاهات المدمرة لهوية الحركة ومسارها ومصداقيتها

بدل أن تكون الحركة الحقوقية في موقع التوجيه للأحزاب والتيارات السياسية في مراحل الانتقال الديمقراطي، بحكم أنها من بين الساهرين على احترام قيم حقوق الإنسان والمدافعين عنها، حصل العكس في عديد الحالات وبعديد الدول، حيث انخرطت بعض المنظمات في الصراع السياسي والأيديولوجي الدائر هنا وهناك، واصطفت وراء هذا الطرف أو ذاك، وهي تعلم أن هذا النوع من الصراعات تحكمه في الغالب مصالح ونزعات التفرد والإقصاء، وتدرك أنها بذلك قد تسقط في الرداءة والمياه الآسنة.

وبدل أن تتصدى هذه المنظمات لمثل هذه الأوضاع، أو على الأقل تنأى بنفسها عن هذه السياقات الموبوءة، انخرط بعضها في الدفاع عن هذا الحزب أو تلك الأيديولوجيا، وتهاونت في الوقوف إلى جانب من ترى فيهم أعداء لها. وعندما تصبح الديمقراطية مهددة في أسسها ومؤسساتها، تبحث هذه المنظمات والأوساط عن مسوغات لا تليق بتاريخ الحركة الحقوقية ونضالات مؤسسيها. وبدل أن تتولى هذه المنظمات الدفاع عن مسارات الانتقال الديمقراطي، تتحول بوعي منها أو بدون وعي إلى طرف يسوّغ للردة السياسية وضرب الحريات والحقوق، ولم ينجُ من ذلك إلا القليل.
وُضع جميع الإسلاميين كالعادة في سلة واحدة من أجل القضاء عليهم بكل الطرق والوسائل، وتحميلهم كامل مسؤولية فشل تجارب الانتقال السياسي في المنطقة. وفي ضوء ذلك، عاد الخطاب التبريري والمؤيد بأشكال متعددة السياسات الإقصائية والقمعية للأنظمة بحجة التخلص من عدو مشترك هو "الإسلام السياسي"

خصص المنتدى جلسته العلمية الأخيرة للحديث عن دور الصراعات الأيديولوجية في أزمة الحركة الحقوقية العربية، وكشف النقاش العميق والجدي الذي دار بين المشاركين أهمية هذه المسألة وخطورتها. وحظي الموقف من حركات الإسلام السياسي باهتمام كبير بسبب الأدوار المحورية التي قامت بها هذه الحركات خلال العشرية الأخيرة في معظم الساحات العربية. لقد تصدر الإسلاميون المشهد في أكثر من بلد، وصلوا إلى السلطة في بعضها، هيمنوا أحيانا وشاركوا في الحكم أحيانا أخرى، وتصدروا المعارضة هنا وهناك. منهم من بقي متمسكا بالسلمية والوسائل القانونية والديمقراطية، ومنهم من تورط في رفع السلاح وحارب الجيوش النظامية، وسفك الدماء، وسيطر على عشرات المدن وادعى إقامة دولة الخلافة، وأثار فتنة كادت أن تأكل الأخضر واليابس.

في ضوء ذلك، كان من الطبيعي أن تثير هذه الحركات ردود فعل سلبية، خاصة في صفوف خصومها من أحزاب وأوساط العلمانية، حتى الرأي العام في أكثر من بلد انقلب عليها وسحب ثقته منها. هنا بالذات حصل انزلاق ودخل البعض في حرب وجود ضد هذه الحركات، مهما كان لونها وخطابها وأسلوب عملها ودرجة التطور الذي مرت به. وُضع جميع الإسلاميين كالعادة في سلة واحدة من أجل القضاء عليهم بكل الطرق والوسائل، وتحميلهم كامل مسؤولية فشل تجارب الانتقال السياسي في المنطقة. وفي ضوء ذلك، عاد الخطاب التبريري والمؤيد بأشكال متعددة السياسات الإقصائية والقمعية للأنظمة بحجة التخلص من عدو مشترك هو "الإسلام السياسي".
لا بد من التمييز بين العمل على إقامة دولة القانون التي تضم الجميع وتحارب التمييز بين مواطنيها، وبين الصراعات السياسية والحزبية التي تعتبر من خصائص النظام الديمقراطي

هناك أصوات شجاعة ترتفع حاليا من داخل الأوساط الحقوقية تحاول أن تصحح المسار، وتدافع عن الشعار المركزي لكل النشطاء الصادقين: "كل الحقوق لجميع الناس" مهما كانت ألوانهم وانتماءاتهم توجهاتهم السياسية. هذه الأصوات في حاجة إلى الدعم والمساندة.

ومن يعتقد بأن الظرف مناسب لاستغلال الانحراف الذي تورط فيه البعض ليشن من وراء هجوما جديدا وغبيا على حركة حقوق الإنسان للتشكيك في شرعيتها وتصفية حساباته معها، فهو واهم وغبي، وعليه أن يقرأ التاريخ بنظارات صافية..

ولا بد من التمييز بين العمل على إقامة دولة القانون التي تضم الجميع وتحارب التمييز بين مواطنيها، وبين الصراعات السياسية والحزبية التي تعتبر من خصائص النظام الديمقراطي. أدافع عن حقك، لكن ذلك لا يعني بالضرورة التحالف معك أو السكوت عن الأخطاء التي ترتكبها أو البرامج التي تحملها، والتي أعتقد من وجهة نظري أنها تشكل خطرا على المجتمع والدولة.
التعليقات (0)