قضايا وآراء

أمواج ناعمة.. حرب أوكرانيا وتحديات الأمن الغذائي العربي

ياسر محجوب الحسين
1300x600
1300x600
على فرض أن رياح الحرب الروسية الأوكرانية جاءت بشيء على البلدين، فإن عواصفها جاءت بالكثير على باقي العالم، فهذا ما أقرته الأرقام الاقتصادية، إذ إن روسيا وأوكرانيا مسؤولتان عن نحو 30 في المائة من تجارة القمح العالمية، وعليه فإن أي اضطراب خطير في الإنتاج والتصدير يؤثر على الأمن الغذائي لملايين الأشخاص، الذين يعانون بالفعل من تهديد أمنهم الغذائي.

اليوم هناك حوالي 20 مليون طن من الحبوب عالقة في الصوامع في أوديسا بأوكرانيا؛ فالحرب الدائرة وإن بدت في ظاهرها حربا عسكرية، لكن رقعتها تتوسع في الفضاء الاقتصادي الممتد. فغيوم الجوع والمسغبة تجري وتسوقها رياح الحرب إلى أرجاء العالم، وبعضها غدا مثل الرَّوضِ لم تَترك به النكباءُ زهرَة. وبالطبع كانت المناطق التي ظلت تفتقر إلى الأمن الغذائي الأكثر وجعا، وقد بلغ تحدي الأمن الغذائي مبلغا بأن أعيد تعريف الأمن القومي، ليصبح القدرة على توفير الغذاء الآمن المستدام، وأن ذلك جوهر الأمن وركيزته التي تتجاوز تهديداته حدود الدول لتطال أقاليم بأسرها.

في شباط/ فبراير الماضي، بلغت أسعار الغذاء العالمية ذُرى عالية بسبب اختلال موازين العرض والطلب، وارتفاع نفقات الإنتاج واضطرابات التجارة الدولية وسلاسل الإمداد جراء وباء كورونا، ثم أتت حرب روسيا وأوكرانيا لتضيف ظلمات بعضها فوق بعض لأسواق السلع الزراعية. إن حسم بوائق الفجوة الغذائية وإماطة أذاها يبدو في ظل التقاطعات السياسية وأجواء الحرب أمرا عارم المشقة، وأن العالم في حاجه إلى سلاسل جبال من الدهاء والحيلة؛ لأن وزن جبل واحد يعادل وزن حبة من القوة القاهرة لهذه الأزمة.
أتت حرب روسيا وأوكرانيا لتضيف ظلمات بعضها فوق بعض لأسواق السلع الزراعية. إن حسم بوائق الفجوة الغذائية وإماطة أذاها، يبدو في ظل التقاطعات السياسية وأجواء الحرب أمرا عارم المشقة، وأن العالم في حاجة إلى سلاسل جبال من الدهاء والحيلة

وربما يأتي تحذير بريطانيا والاتحاد الأوروبي لروسيا وتحميلها مسؤولية الأزمة الغذائية العالمية في إطار الحرب بمفهومها الشامل لا سيما الحرب الاقتصادية، والضغط عليها باعتبارها المتسبب الوحيد في الأزمة. بيد أن وساطة تركية سبقتها خطوة روسية تجاه أوروبا بشأن استئناف ترويد الغاز الروسي إليها؛ قد تبدو كشمس تظهر حينا وتختفي حينا وراء كتل من السحب المتفرقة.

فقد استأنفت روسيا ضخ الغاز إلى أوروبا من خلال أكبر خط أنابيب "نورد ستريم 1"، لكن مع تحذيرات من أنها قد تحد من الإمدادات أو توقفها تماما، مما يعني أن الأمر يتم في إطار مساومات تقوم على تنازلات قد تكون فرضتها تطورات الحرب وموازين القوى.

وتركز الوساطة التركية على فك أسر صادرات الحبوب الأوكرانية، وقالت الرئاسة التركية؛ إنه تم التوصل إلى اتفاق مع روسيا للسماح لأوكرانيا باستئناف تصدير الحبوب عبر البحر الأسود. إن هذا الاتفاق سيضمن المرور الآمن لعدد كبير من السفن والاقتراب من الموانئ الأوكرانية أو مغادرتها، ومن ثم التعاطي مع 20 مليون طن من القمح في مخازن الغلال الأوكرانية.

وفي خضم هذه الأزمة، ليس مستغربا أن المنطقة العربية تتأثر بشكل كبير من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية؛ نظرا لأنها تستورد -بحسب برنامج الغذاء العالمي- نحو 42 في المائة من احتياجاتها من القمح، و23 في المائة من احتياجاتها من الزيوت النباتية من كل من أوكرانيا وروسيا. فالأمن القومي العربي مهدد، بالرغم من أن المنطقة تتسم بالتنوع والتفاوت بين بلدانها، فيما يتعلق بنوعية الأرض وكميات المياه المتاحة والموارد الطبيعية والظروف الاقتصادية والمناخية.
ليس مستغربا أن المنطقة العربية تتأثر بشكل كبير من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية؛ نظرا لأنها تستورد -بحسب برنامج الغذاء العالمي- نحو 42 في المائة من احتياجاتها من القمح، و23 في المائة من احتياجاتها من الزيوت النباتية من كل من أوكرانيا وروسيا

وباستثناء عدد من البلدان، فإن الإنتاج الزراعي يمثل أهمية كبيرة للمنطقة، غير أنها لا تنتج ما يكفيها من القمح والزيوت النباتية وغيرها من الغلال، فتلجأ إلى استيرادها. والسبب سياسات بعض الحكومات العربية التي لم تمنح الأولوية في خططها الاقتصادية للمشروعات الزراعية، خاصة المعنية بالمحاصيل الاستراتيجية كالقمح، كما أنها لم تدعم المزارعين كما يحدث في بلدان غربية، ما أدى إلى تدهور الإنتاج الزراعي، ودفع بالمزارعين إلى الهجرة إلى المناطق الحضرية أو الخارج.

ونتج عن إهمال الدول العربية للقطاع الزراعي استخدام المزارعين لطرق ووسائل إنتاج بدائية، فضلا عن الثقافة الاجتماعية ذات النظرة السلبية للمهن الزراعية، الأمر الذي أشاع عزوف المواطنين عنها. وعوضا عن ذلك، يتم البحث عن وظائف مكتبية، مما أسهم في ازدياد البطالة المقنعة، وسبب ذلك نقصا كبيرا في الخبرات وعمالة قطاع الزراعة.

اليوم، هناك بلدان في المنطقة كسوريا واليمن والسودان تعاني بالفعل من مستوى مرتفع من انعدام الأمن الغذائي، بسبب النزاعات وتدهور أدائها الاقتصادي. ويشير تقرير برنامج الغذاء العالمي لعام 2021 إلى أن نحو 28 مليون شخص في بلدين عربيين فقط (سوريا واليمن)، يعتبر الأمن الغذائي فيهما في وضع كارثي. ويقول التقرير؛ إنه حتى قبل الحرب في أوكرانيا، كان هناك ارتفاع في أسعار سلال المواد الأساسية الغذائية.

هذه الزيادة كانت بنسبة 351 في المائة في لبنان الأعلى في المنطقة، بعدها سوريا 97 في المائة، ثم اليمن 81 في المائة، وسجلت الدول الثلاث انخفاضا حادا في قيمة العملة. وذكرت مسؤولة أممية أن السودان شهد ارتفاع أسعار سلة الغذاء المحلية بنسبة 124 في المائة في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وارتفع دقيق القمح بنسبة 300 في المائة. وأضافت أن السودان كان يمكن أن يكون سلة غذاء عالمية والمؤشرات المذكورة خطيرة، مع انهيار قيمة العملة المحلية خلال مطلع 2021. وخلصت إلى أن هشاشة كل هذه الدول واقتصادها وهيكل الأمن الغذائي، يجعلها اليوم من الدول الموجودة في دائرة الخطر.
استطاعت بعض الدول سواء على المستوى العربي أو العالمي من تحويل الأزمات السياسية التي تضر بالأمن الغذائي من نقمة إلى نعمة، حينما استطاعت أن تصنع بدائل غذائية محلية تكفي البلاد الحاجة الخارجية

من جانب آخر، استطاعت بعض الدول سواء على المستوى العربي أو العالمي من تحويل الأزمات السياسية التي تضر بالأمن الغذائي من نقمة إلى نعمة، حينما استطاعت أن تصنع بدائل غذائية محلية تكفي البلاد الحاجة الخارجية، ولو كانت من بلاد مجاورة وتكتفي ذاتيا وتوفر لمواطنيها أمنا غذائيا، يحول دون التأثير السالب أو تحويل الغذاء لسلاح لحسم المعارك السياسية.

وتجدر الإشارة هنا إلى تجربة دولة قطر إبان الحصار الذي صاحب الأزمة الخليجية (٢٠١٧-٢٠٢١)، حيث استطاعت السنوات الثلاث للحصار تحويلها الأولى عربيا في مجال الأمن الغذائي، كما قفزت إلى المركز 13 عالميا. وأسهمت سياسة جديدة اتبعتها تعاطيا مع واقع الحصار، في زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي، وارتفعت بذلك نسبة الاكتفاء الذاتي في عدد من السلع المختلفة. وحققت على سبيل المثال في قطاع الألبان ومنتجاتها زيادة من 28 في المائة إلى 106 في المائة، وفي قطاع الدجاج الطازج من 50 في المائة إلى 124 في المائة.
التعليقات (0)