آراء ثقافية

شاكر عبد الحميد والغرابة في الأدب العربي

الغرابة.jpeg
الغرابة.jpeg
غاب عنا في آذار/ مارس 2021 الدكتور شاكر عبد الحميد بعد إصابته بفايروس كورونا، مخلفًا وراءه ثروة أكاديمية من الدراسات المتخصصة بعدة مجالات منها: الترجمة، والنقد الأدبي، والسينما، والفن التشكيلي.

وفي هذا المقال سأسلط الضوء على كتابين مهمين تناول فيهما عبد الحميد موضوع الغرابة Uncanny. بذل عبد الحميد جهدًا عظيمًا في البحث والترجمة؛ إذ لم يسبق لباحث يكتب بالعربية من قبله تناول موضوع الغرابة بهذه الجدة.   

قبل استعراض كتابي عبد الحميد ومناقشة أهميتهما لا بد من توضيح مفهوم الغرابة. فحين ترد كلمة الغرابة تخطر على أذهاننا كلمات كثيرة مشتقة منها، كالغربة والاغتراب والتغريب، فما هي الغرابة Uncanny، ولماذا يعتبر تناول عبد الحميد لهذا الموضوع مهمًا وجديدًا؟

الغرابة Uncanny مصطلح مهم في عدد من الحقول المعرفية التي تشمل الفلسفة، والأدب، وعلم الاجتماع، والدراسات السينمائية، والعمارة، والتحليل النفسي، وغيرها. في دراسة مبكرة لسيجموند فرويد (1856-1939) حدد طبيعة الغريب بقوله: إنه يتعلق بتلك المشاعر الخاصة تجاه شيء لا يكون غامضًا وعجيبًا فقط، ولكنه يكون مألوفًا على نحو غريب. يرتبط الغريب بكل ما هو قيد للشك والاضطراب والخوف والارتياب، وتنبع قوته من عدم قابليته للتفسير الواحد، إنه إحساس يتعلق بعدم الراحة والطمأنينة، حالة شبحية من الإدراك والفهم والشعور، حالة ترتبط بكل ما هو منذر بالخوف أو الخطر، ومن تعريفات الغرابة أنها حالة انفعالية، إحساس، خبرة تتعلق من دون شك بما هو مخيف، بما يستثير الفزع والرعب.

تعتبر مقالة سيجموند فرويد التي ظهرت عام 1919 الينبوع والمصدر الثقافي الأساسي لهذا الموضوع. على الرغم من أن إرنست يينتش قد سبقه بدراسة حول الغرابة عام 1906، وكان عنوانها: "حول علم نفس الغريب On the Psychology of the Uncanny"". لكن أهمية هذه الدراسة لا تقارن بدراسة فرويد، الذي اعتمد في مقالته على أفكار ينتش صراحة أو ضمنًا. لم يلتفت النقاد لمقال فرويد في البداية، بل تجاهلوه لوقت طويل، ولكنهم التفتوا إليه في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته.

دراسات الغرابة في النقد العربي:

في النقد العربي الحديث تناولت بعض الدراسات الغرابة ، ونذكر منها: "الأدب والغرابة"(1) لعبد الفتاح كيليطو، و"جدل الألفة والغرابة" (2) لسعد البازعي، و"الغرابة بين التلقي والدلالة في السرد العربي القديم" (3) لمحمد بن عبد العظيم بن عزوز. ربما تتقاطع هذه الدراسات في بعض النقاط مع غرابة فرويد، ولكنها لا تحيط بجوهر الغرابة Uncanny.

يعتبر شاكر عبد الحميد أهم من كتب في موضوع الغرابة عربيًا، وقد وضع كتابين مهمين يعتبران مرجعًا أساسيًا لمن يود فهم الغرابة والكتابة حولها. كتابه الأول تحت عنوان: الفن والغرابة (مقدمة في تجليات الغريب في الفن والحياة)(4). نشر الكتاب عام 2010، وناقش فيه عبد الحميد معنى الغريب وتجلياته في الحياة والفن في تسعة فصول، أولها كان حول معنى الغرابة، وآخرها فصل بعنوان "فنانون وغرباء". وبين هذه الفصول ناقش نظريات الغرابة، وبعض تجلياتها في المسرح والسينما، كما أفرد فصلًا للغرابة والمكان، والغرابة التكنولوجية والتشكيلية.

أما الكتاب الثاني بعنوان: الغرابة (المفهوم وتجلياته في الأدب) (5). صدر عام 2012، وهو أكثر تخصيصًا من كتابه الأول؛ حيث تناول فيه تجليات مفهوم الغرابة في الأدب في تسعة فصول، أولها فصل حول الغرابة، وآخرها فصل فيه دراسة نص غريب مع رؤى نقدية متعددة حوله، وبينها تناول الكاتب الغرابة وسرديات الخوف والظلام، والغرابة وانفكاك الذات، والغرابة والقرين. وقد زاوج عبد الحميد في كتابه بين التنظير والتطبيق.

يجد القارئ لكتابي عبد الحميد نفسه أمام كتب موسوعية، إذ لم يكتف بالعرض التاريخي لتطور المصطلح، بل عمد إلى تقسيم الغرابة إلى فئتين، هما: غرابة المألوف، وغرابة غير المألوف. كما ناقش أشكال ومظاهر الغرابة في فصول استطرد فيها واستفاض بتقديم الأمثلة من الأدب والسينما، التي من شأنها أن تبسط وتوضح مفهوم وماهية الغرابة للقارئ المبتدئ. يدهش القارئ من زخم هذين الكتابين اللذين يضمان بين دفتيهما كنوزًا من الدراسات المهمة التي لم تترجم للعربية بعد، بالإضافة لقصص وأفلام مهمة لم تحظ بالدراسات العربية الكافية.

هل التفت أحد غير شاكر عبد الحميد لدراسة الغرابة Uncanny حديثًا؟

ظهرت في السنوات القليلة الماضية بعض الدراسات العربية لمفهوم الغرابة كما ورد عند فرويد، نذكر منها: "الكتابة والغرابة المقلقة في قصص محمد غرناط، دراسة على مجموعة داء الذئب" (6) لحسن المودن، و"الغرابة في الرواية العربية- الإسكندرية 2050 نموذجًا" (7) لعزوز علي إسماعيل، و"الغرابة في شخصيات رواية عرس الزين للكاتب الطيب صالح" (8) لفتح الرحمن الجعلي، و"الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كصراع على الغرابة قراءة لرواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (9) لإيهاب قريبة.

هذه الدراسات، على قلتها، مبشرة. إذ نلحظ التفات هؤلاء الباحثين لجمالية مهمة تستحق الدراسة، ومن خلال هذه الأبحاث استثمروا مجهود شاكر عبد الحميد لتكون كتبه نقطة انطلاق للدخول في عوالم الغرابة.
1
التعليقات (1)
نسيت إسمي
الإثنين، 20-06-2022 04:51 م
1 ـ (الحقول المعرفية) من أهم مقومات بناء الحضارة وتحصين الذات، التركيز على تحسين أداء المنظومة التعليمية وتجويد مردوديتها، من حيث التنظير العلمي والبيداغوجي للمعارف وتصميم البرامج والمقررات ومراعاة الأولويات من مدخلات ومخرجات، لأن بالعلم والتعلم تسود الأمم والدول، ويقاس منسوب الحضارات وتقدمها، ولأن قوتها سبب للشرف والرفعة بين أقرانها، ولهذا أولى المسلمون قديما عبر التاريخ القديم حكاما ومحكومين، علماء ومفكرين للمنظومة التعليمية كل العناية والاهتمام، فصاروا أئمة الأمم وأسياد الدول، ولكن كما قال أبو البقاء الرندي في نونيته: لكل شيء إذا ما تم نقصــــــــــــان..فلا يُغَر بطيب العيش إنســــــــــــــــان..هي الأمور كما شاهدتهـــــــــــا دول..من سره زمن ساءته أزمــــــــــــــــــان. فبعد ظهور العولمة والدعوة إلى الحداثة ظهر ضعف الأمة الإسلامية ودخل عليها الانحلال من كل مدخل حتى بلغ الأمر إلى المدارس والجامعات والمعاهد والكليات، بل وصل إلى المناهج والمقررات، ولعل أبرز المؤشرات والعلامات هو ما تعيشه بعض الجامعات العربية عموما، من تفكك معرفي وقيمي، وانفصال تام أو شبه تام بين الهوية الإسلامية وبين المعارف الأكاديمية المدرسة، في غياب تام لنظرة تكاملية متناسقة بين علوم الوحي وعلوم الكون، وهذا الأمر يحيلنا إلى الرجوع إلى التراث الإسلامي واستنطاقه لمعرفة أصل العلوم وطبيعتها والعلاقات بينها في تصور علماء ومفكري الأمة، وهنا نطرح التساؤلات التالية : إلى أي حد يمكن القول أن علماء الأمة الإسلامية قديما كانوا يدركون وجود تكامل وتقاطع بين علوم الوحي وعلوم الكون؟ وهل الدعوة إلى تكامل العلوم دعته الضرورة العصرية بعد تشعب العلوم وتفككها أم سبق السلف إلى هذه الدعوة والتنبيه عليها؟ وما هو واقع الجامعات الأكاديمية في ظل غياب النظرة التكاملية للعلوم؟ وما هي الأسباب والتداعيات الحقيقية التي تفرض علينا اللجوء إلى التخصص؟ وهل هناك إمكانية الجمع بين علوم الوحي وعلوم الكون اعتمادا على ما وصلنا من التراث الإسلامي؟. 2 ـ (الختم السابع ونظرية المعرفة) “آه ارحمنا يا ربنا نحن ضعفاء وخائفون وبدون معرفة” إن نظرية المعرفة هي مبحث مهم في الفلسفة وتستند عليها النقاشات حول أصل المعرفة ومصادرها. وفي نقلة نوعية تحول بيرجمان من أفلام الكوميديا إلى صناعة فيلم يناقش أحد أهم الأسئلة الفلسفية المستندة على نظرية المعرفة ، وهي قضية ( الإيمان بين الفلسفة والعلم) ليتحدث فيه عن منعطف إيماني مر به الفارس الصليبي “بلوك” عندما نجا من الموت في الحرب، ليجد الموت ينتظره في صورة الطاعون في بلاده. يبدأ الفيلم بمشهد الموت على هيأة شخص متوشح بالأسود يسير نحو الفارس “بلوك”، يعكس بذلك المخرج فلسفة أن الموت حقيقة كلية موجودة وليست مفهوما مجردا على الأحداث، متفقا في ذلك مع أفلاطون في نظرية الاستذكار التي يقول فيها ” المعاني والأشياء كلها ظلال وانعكاسات للمثل والحقائق الأزلية الخالدة في عالم المثل”. 3 ـ (كتاب الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي) الوفاء لعالم الألفة لا يعني الإنفصال الكلي عن عالم الغرابة. وإلا فلماذا يشعر السندباد بحاجة ملحة لرواية تجاربه ولماذا "صار كل من سمع بقدومه يجئ إليه ويسأله عن حال السفر وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه". حكاية السندباد بمثابة حوار، أو جدل، بين الإنغلاق والانفتاح، تماما كالثقافة العربية المعاصرة لها (الجاحظ مثلا) التي تتميز بالالتحام بين عناصر مألوفة وأخرى غريبة، بين البر والبحر. واليوم من ينكر أن السندباد لا يزال يخاطبنا عبر القرون ويسألنا عن علاقتنا بالعالم المألوف وبالعالم الغريب (الغربي)؟ لقد كثر حفدته على الخصوص منذ عصر النهضة (انظر على سبيل المثال الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق وحديث عيسى بن هشام للمويلحي) وليس في الأفق ما ينبئ بأن عهد "السنادبة" قد انتهى. بصفة أو بأخرى كلنا اليوم، في العالم العربي، سندباد. "عبد الفتاح كيليطو".