نشرت
مجلة "
ذي أتلانتك" مقالا للصحفي توم ماك تاغيو قال فيه إن الفكرة السائدة
بأن الغرب في حالة انحدار حتمي أصبحت محل تساؤل مع تعثر قوات بوتين في مستنقع أوكرانيا
وفشله في هزيمة واحدة من أفقر الدول في أوروبا، والإغلاق الذي تفرضه الصين على ملايين
الأشخاص لاحتواء مرض كوفيد-19.
هذه،
على الأقل، هي الرسالة التي تريد بريطانيا أن تصل إلى الولايات المتحدة وحلفائها من
الفوضى الدموية والاضطراب الذي يميز السياسة العالمية اليوم. وتريد بريطانيا من
الغرب التخلي عن محاولة إقناع موسكو وبكين باللعب وفقا لقواعد اللعبة، فهما لن تفعلا.
وينسون فكرة أن الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية مناسبتان لهذا الغرض، فهما ليستا
كذلك. وينسون المعتقدات الطوباوية حول التقدم الحتمي للديمقراطية، إنها مخطئة.
بدلا
من ذلك، يعتقد القادة البريطانيون أنه يجب على الناتو توسيع مهمته، وأنه يجب تحويل
مجموعة السبع إلى سلاح اقتصادي، وأن الغرب الذي ظل محرجا لفترة طويلة بشأن تاريخه
وثروته، فإنه يجب أن يبدأ بالثقة بنفسه مرة أخرى، والتصرف كذلك.
إن الرسالة
مدهشة من بلد أصيب بالشلل، ربما أكثر من أي بلد آخر، على مدى السنوات القليلة الماضية
بسبب انقسامه، والارتباك الاستراتيجي.. لكن يبدو أن الحرب في أوكرانيا أعطت لندن حقنة
من الطاقة والطموح (أو، كما قد يفضل منتقدوها، الغطرسة وخداع الذات)، وهو تحول جذب
انتباه موسكو وكييف.. فأثارت هذه الثقة بالنفس مقاييس متساوية من الازدراء والابتهاج.
في موسكو،
تُصوَّر بريطانيا الآن على أنها واحدة من أبرز الدول المحاربة في الغرب المصممة على
وقف عودة ظهور روسيا كقوة عظمى. وتعرض أخبار الدولة مقاطع عن المملكة المتحدة وكيف تتم إبادتها
بأسلحة نووية. وينتقد المحللون لندن باعتبارها أحد رأسي التنين الأنجلو-أمريكي العظيم،
وهو أكثر شرا من واشنطن، بينما يعرضون صورا لأبرز صقور الحكومة، رئيس الوزراء بوريس
جونسون ووزيرة خارجيته الأقل شهرة، ليز تراس.
قبل
أن تنتقل إلى منصبها الحالي، غالبا ما كانت تراس تتعرض للسخرية في الصحافة البريطانية
بسبب ترويجها لنفسها، لا سيما على "إنستغرام"، وكذلك بسبب مقطع فيديو تدين
اعتماد البلد على الجبن المستورد واصفة ذلك بأنه "عار". كما أنها تعرضت لانتقادات
لكونها شخصية متغيرة ودعمت البقاء في الاتحاد الأوروبي قبل أن تصبح واحدة من الدعاة
الرئيسيين للحكومة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. مع ذلك، فقد كانت تراس قوية مثل
جونسون في دفع رد فعل بريطانيا على غزو بوتين، والترويج لإعادة تصور نظام دولي اعترفت
لي بأنها كانت تعتبره أمرا مفروغا منه.
فكرة
تراس المركزية هي أن الغرب قد أصبح راضيا منذ نهاية الحرب الباردة، بسبب أزمة روحية
نسي فيها ما يمثله وكيف يدافع عن مثله العليا، ما سمح لخصومه بالاستفادة من مؤسساته
وانفتاحه. وهي تعتقد أن الغرب بحاجة إلى البدء
بالدفاع.
للقيام
بذلك، دعت تراس إلى أن تكون مجموعة السبع "أكثر مؤسساتية" وتتحول إلى
"ناتو اقتصادي" يمكنه الدفاع عن أعضائه من الإكراه الاقتصادي الصيني. كما أنها
تريد أن يصبح الناتو نفسه أكثر عالمية في رؤيته، ليعكس حقيقة أن التفكير في الأمن الأوروبي
أصبح الآن مستحيلا دون اعتبار بكين وتحالفها العميق مع موسكو.
قالت
لي في مقابلة مطولة في مكتبها: "هذا يعني بوعي أن الأمم المتحدة ومنظمة التجارة
العالمية لم يعملا على تحدي هذا السلوك.. لهذا السبب فإننا نحتاج حقا إلى الاعتماد على هذه
المجموعات، هذه الشراكات.. لإنجاز الأمور".
بالنسبة
للعديد من المسؤولين والخبراء في باريس وبرلين وحتى واشنطن، فإن الأفكار البريطانية
ليست جديدة، إنها مجرد وجه آخر لمحاولات خدمة مصالح ذاتية لحماية النفوذ البريطاني.
فقد أدى ترك الاتحاد الأوروبي إلى جعل بريطانيا أكثر اعتمادا على المنظمات الدولية
التي لا تزال تنتمي إليها، مثل الناتو ومجموعة السبع. وتعتقد فرنسا، على وجه الخصوص،
أن الدرس الحقيقي المستفاد من أزمة أوكرانيا هو تمكين الاتحاد الأوروبي من أن يكون
أقل اعتمادا على الولايات المتحدة، وبالتالي تحرير واشنطن للتركيز على تنافسها مع بكين.
وردت
تراس بأن آخر مرة استثنت فيها أوروبا بريطانيا والولايات المتحدة من جهودها الدبلوماسية
- عندما توسطت ألمانيا وفرنسا في ما يسمى باتفاقات مينسك بين أوكرانيا والانفصاليين
المدعومين من روسيا في أعقاب ضم موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014 - كانت كارثة. واقترحت
أن الأمور قد تكون مختلفة لو شاركت لندن وواشنطن منذ البداية. وقالت: "كان يجب
أن نكون هناك.. المملكة المتحدة هي أكبر منفق أوروبي في الناتو. الولايات المتحدة هي
القوة الرئيسية في الناتو. كان يجب أن تشارك كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة،
ولن نرتكب هذا الخطأ مرة أخرى". وهذه رسالة ضمنية إلى الولايات المتحدة مفادها
أن قيادتها لا تزال مطلوبة.
من غير
المرجح أن تلقى مثل هذه اللغة الصارخة ترحيبا جيدا في باريس وبرلين، حيث تعرض موقف
بريطانيا المتشدد تجاه روسيا لانتقادات هادئة منذ بداية الصراع.
وفقا
لبعض الدبلوماسيين والمسؤولين الذين تحدثت معهم، فإن موقف بريطانيا جعل التوصل إلى
وقف إطلاق النار أكثر صعوبة، ما أدى إلى ارتفاع ثمن السلام الذي سيتم دفعه بدماء الأوكرانيين،
وكل ذلك في محاولة مكشوفة إلى حد ما لاستعادة سمعة بريطانيا.
بعد
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ حتى داخل حكومة المملكة المتحدة، أعرب المسؤولون
لي عن قلقهم من أن تشدد تراس هو جزئيا مسرحية سياسية لتحسين وضعها قبل أي مسابقة لخلافة
جونسون (على النقيض من ذلك، يجادل الدبلوماسيون البريطانيون بأن التردد الفرنسي والألماني
ليس أكثر من ضعف يرتدي زي الرقي).
ومع
ذلك، فإن من الصعب الخلاف في أن الموقف الغربي من الغزو الروسي قد تحرك وفقا لبريطانيا
وليس العكس. وكررت تراس ما قاله جونسون، الذي قال إن الزعيم الروسي "يجب أن يفشل
وأن ينكشف فشله". وأخبرتني أن بوتين "لديه طموحات لخلق روسيا كبرى تهدد أوروبا
والمملكة المتحدة. لذلك، فإن لدينا مصلحة في مساعدة الأوكرانيين في استعادة سيادتهم ووحدة
أراضيهم، والتأكد في المستقبل من الدفاع عنهم بشكل صحيح، ولكن لدينا أيضا مصلحة في
احتواء العدوان الروسي، لأن هذا ما فشلنا في القيام به منذ ذلك الحين، نهاية الحرب الباردة".
لقد
انتقدت ليس فقط الفرنسيين والألمان، ولكن ضمنيا معظم القادة الغربيين منذ مطلع القرن،
حيث أدرجت قرار السماح للصين بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في عهد بيل كلينتون
والفشل في الرد بشكل كافٍ على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عهد باراك أوباما. كأخطاء
كبيرة. مثل هذا الضعف، من وجهة نظر تراس، يعني أنه بحلول عام 2022، لم تصدق روسيا التحذيرات
من واشنطن ولندن وباريس وبرلين. وقالت: "لقد استوعب بوتين الرسالة من تقاعس الغرب
عن العمل في عام 2014، ثم اعتقد لاحقا أننا سنواصل القيام، أو بالأحرى عدم القيام،
بما لم نفعله من قبل.. لذلك فإنهم لم يأخذوا التحذير على محمل الجد".
موقف
بريطانيا هو أن روسيا والصين لم تأخذا الغرب على محمل الجد، لأن الغرب توقف عن أخذ
نفسه على محمل الجد.
عندما
حددت تراس رؤيتها للعالم الحر وهو يسل سيف الحرية مرة أخرى، فيبدو أنها تتجاهل مشكلة
واحدة كبيرة: الولايات المتحدة. في عام 2024، قد تصوت الولايات المتحدة مرة أخرى لترامب
- أو أحد مساعديه - وعلى الرغم من أن الرئيس السابق قد يشارك بريطانيا فكرة الضعف الغربي،
إلا أنه بالتأكيد لا يؤمن بهذه الوحدة الروحية للدفاع عن الحرية. عندما ذكرت ذلك لتراس،
تهربت، معلنة أن الأمر "مسألة تخص الشعب الأمريكي الذي ينتخبونه كرئيس لهم"
وأصرت على أن الولايات المتحدة كانت دائما "جزءا مهما للغاية من العالم الحر،
ومنارته الرائدة".
تساءلت
عن ما إذا كانت تعتقد أن ترامب قد ثبت أنه محق في ادعائه بأن الصين سرقت غداء أمريكا.
قالت: "هناك الكثير من الأشياء التي قالها ترامب والتي أثبتت صحتها" قبل
أن تستدرك قائلة: "هناك أيضا أشياء قالها ولم يثبت صحتها".
من الصعب
مع تراس تجنب الإحساس بأنها، على الأقل من الناحية الخيالية، لم تغادر الثمانينيات
وشعورها بالمهمة. بينما نتحادث، لا يسعني إلا أن ألاحظ إشاراتها إلى "تاتشر"ومقاطع
صوتية تبدو وكأنها من حقبة أخرى: "لا يمكننا أبدا أن نتخلى عن حذرنا" و"ثمن
الحرية هو اليقظة الدائمة".
تعرضت
تراس للمضايقة في الصحافة البريطانية لظهورها في موسكو قبل الغزو مرتدية قبعة فراء
على الطراز الروسي كتلك التي ارتدتها مارغريت تاتشر ذات مرة خلال الحرب الباردة. وبالنسبة
لمنتقديها، فقد كانت وزيرة الخارجية تقلد عن قصد بطلتها العظيمة على أمل أن تكتسب بعض هالة
السيدة الحديدية.
في حديثنا،
لم تفعل تراس الكثير لتبديد فكرة أنها محاربة باردة. أخبرتني أنها تقرأ سيرة بيتر كارينغتون،
وزير خارجية تاتشر عندما غزت الأرجنتين جزر فوكلاند. وقالت إنها "قرأت مجموعة
متنوعة من الكتب"، مضيفة أنها أكملت مؤخرا كتاب "شعب بوتين" لكاثرين
بيلتون، "لكنني أعتقد أن ما حدث في الحرب الباردة، وتعلم دروس كيف نجحنا في تحدي
أفكار الاتحاد السوفياتي وكذلك أفعالهم، أمر مهم للغاية".
عندما
تحدثت معها، أصبح من الواضح أنه بدلا من التفكير في أننا الآن في حرب باردة ثانية،
فإنها تعتقد أن الحرب الأولى لم تنته أبدا. قالت: "كان الإحساس بأن المعركة قد
انتهت.. لكنهم لم يتوقفوا عن القتال". وتابعت: "هناك عناصر من النظام السوفياتي
استمرت". هل تعتقد أن المعركة المقبلة ليست معركة اقتصاد وقوة فحسب، بل معركة
أفكار؟ فأجابت "نعم".
منذ
الحرب العالمية الثانية، تمسكت بريطانيا بفكرة عن نفسها على أنها اليونان بالنسبة لروما
الأمريكية، ووجهت خليفتها الإمبراطوري في فن الهيمنة، وأعطتها الأفكار لتشكيل العالم.
لطالما كان لهذه الرؤية للتأثير البريطاني سذاجة مريحة لها. وعلى الرغم من إدانة تراس
للمثالية الغربية الساذجة، فلا يزال هناك شيء ساذج ومثالي إلى حد ما حول تراس نفسها.
إنها تؤمن بالعالم الحر بطريقة من الواضح أن ترامب والكثيرين في كل من بريطانيا والولايات
المتحدة لا يؤمنون بها.
عندما
ذكرت عرضا أننا، في المحصلة، نعيش في عالم أمريكي، تدخلت تراس سريعا لرفض فرضيتي. اقترحتُ
أنها شديدة السذاجة، لكنها أصرت على أن قرارات السياسة البريطانية للتوافق مع الولايات
المتحدة قد اتخذت لأنها كانت الشيء "الصحيح" الذي يجب القيام به، وليس بسبب
قوة أمريكا.
كانت
الدردشة مع تراس بمثابة تذكير بأن الذاكرة الوطنية ليست تذكرا للحقائق والأحداث بقدر
ما هي سردية تبنيها الدول لمساعدتها على فهم تاريخها. تشكلت سرديتها من خلال تصورها
للثمانينيات، انتصار الحرية لريغان وتاتشر.
تقييم
تراس ليس مثيرا للجدل أو جديدا بشكل خاص. تدرك الحكومات في جميع أنحاء العالم أن العقود
التي تلت الحرب الباردة تميزت بمزيج كارثي من الغطرسة والنفاق والتقاعس عن العمل.
ومع
ذلك، فإن النقطة ليست ما إذا كانت قصة بريطانيا عن التهاون الغربي جديدة أم دقيقة،
ولكن ما إذا كان يتم تصديقها. الأمم لا تشعر وتتذكر فقط؛ يغيرون قصصهم اعتمادا على
ما يحدث في ذلك الوقت، ويعرضون على التاريخ قصة جديدة تناسب أي موقف جديد يواجهونه، ما يساعدهم على فهمها.
في الثمانينيات،
اعتقد الكثير من الناس - على الأقل في بريطانيا وأمريكا - عن الصواب والنصر. ربما كان
الأمر مفرطا في التبسيط، بل إنه خاطئ، لكنه كان قويا على وجه التحديد لأن هناك عددا كافيا
من المشتركين فيه، بما في ذلك تراس وجونسون.
اليوم،
من الواضح أن روسيا تشعر وتتذكر تاريخها. ولكن بسبب ما فعلته، بدأت الدول الأخرى تتذكر تاريخها. بالنسبة للحكومة البريطانية الحالية، سواء كان ذلك بدافع المصلحة الذاتية
أو الاقتناع الأيديولوجي، فإن الأمل هو أن يبدأ الغرب نفسه بالإيمان بقصة قديمة مرة
أخرى.