عن الأبراج المائلة

كنت في نحو العاشرة عندما جلست في حلقة ضمت بعض نساء قريتنا النوبية، التففن حول غجرية تمارس "ضرب الودع"، أي قراءة الطوالع باستنطاق أصداف بحرية صغيرة الحجم، تلقي بها أرضا كيفما اتفق، ثم تقوم بتفسير دلالات وجودها هنا وهناك، وذلك نظير رسم مالي يسمى "البياض" في حدود خمسة قروش من كل راغب في معرفة طالعه، ونظرت تلك السيدة إلي طويلا وران صمت على المكان، فسارعت أمي بتقديم خمسة قروش إضافية لها فانفرجت أساريرها وهتفت وهي تقدم لي صَدَفة: سعد وسعيد وصحتك حديد، وعمرك طويل وأجلك قصير، وعلا البشر وجه أمي ووجوه صويحباتها، ولم أكن أنا ولا من هم حولي من النساء وبسبب عجمة ألسنتنا النوبية نفهم معظم ما تقوله الغجرية وندرك فقط أننا موعودون بالخير عندما تبدأ كلامها بـ"أبشر/ ابشري"، وعليه لم أدرك أنها تنبأت لي بالعيش طويلا و"قصيرا" في نفس الوقت، إلا حينما بلغت في المسار المدرسي مرحلة سورة نوح وشرح معاني آياتها "يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ".
 
ظللت على مدى سنوات طوال أنعى على أهلي عيشهم في بيئة تعشش وتبيض وتفرخ فيها الخرافات والشعوذة، ثم اكتشفت أن جميع الشعوب تعاني من تلك الآفة، بل إنه وفي الغرب الذي ننظر إليه على أنه عنوان الرقي والتحضر لا تخلو صحيفة من تكهنات ترتبط بما يسمى بالأبراج، تفترض أن آلاف الناس يشتركون في طوالع معينة بحكم مولدهم "تحت" أبراج معينة، وتأسيسا على ذلك ينبغي أن يكون هناك ملايين المليارديرات في العالم من مواليد شباط / فبراير الذي ينضوي برجا الثور والعقرب تحت لوائه، أسوة بمارك زكربيرغ رئيس شركة فيسبوك وبيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت.

وكي لا أتعرض للاتهام بالتعدي على أبراج الآخرين، فإنني سأتوقف عند محطة ويوم وشهر ميلادي، وهو الأول من أيلول / سبتمبر (العذراء) ـ وهو نفس يوم مولد جماهيرية معمر القذافي ـ ويقول خبراء الطوالع إن شخصيتي نتاج تأثير مشترك من الشمس وعطارد، مما يجعلني شديد الموثوقية وقائدا مطبوعا يتسنى له الوصول إلى مراقي السلطة والقوة (متى، والعمر مضى معظمه؟ وهل محمد حمدان دقلو/ حميدتي الذي قفز في السلم العسكري من رتبة "لا شيء" إلى عميد ثم فريق أول ثم الرجل الثاني في الدولة سرق حصتي من هذا البرج؟)

في الساحة العربية هناك كهان يوافوننا في أواخر وطوالع كل عام بتكهناتهم وفي مقدمتهم الألوسي الذي قال في مطلع عام 2003: إن نظام صدام حسين سيعقد سلاما دائما مع الولايات المتحدة، وبعدها بنحو شهرين كانت القوات الأمريكية قد دخلت بغداد وكان ما كان من أمر القبض على صدام حسين وقتله هو وولديه.

وللوقوف على خطل التنجيم وقراءة الطوالع ربما يكفي استعراض بعض الخطرفات السنوية لسيدة لبنانية أحجم عن ذكر إسمها ليس مراعاة لمشاعرها أو خشية أن تقاضيني، ولكن لأن في ذكر الإسم ترويج غير مباشر لـ "الباطل"؛ ومنها قولها مثلا "برجا القوس والجوزاء يمتلكان حظوظاً كثيرة هذا العام وسيتخلّصان من الكثير من المعاناة والضغوط". كيف يملك مواليد البرجين حظوظا كثيرة وهم سيتخلصون من "الكثير" من المعاناة والضغوط؟ معنى كلامها أنهم سيظلون يعانون من "بعض" الضغوط والمعاناة.
 
نواصل بعد الفاصل: ستكون بداية العام مربكة لمواليد أبراج القوس والجوزاء والعذراء والجدي والسرطان، لكن في شهر حزيران (يونيو) تتغير الصورة ويرتاح السرطان قليلاً، (يرتاح من ماذا؟ أساسا ما هو مجال نشاطه؟) بينما يعاني الميزان والجدي والحمل بسبب عدم توافر أي موقع فلكي جيد لديها. أما الجدي فيصبح في الشهور الثلاثة الأخيرة، أفضل من بداية السنة. والميزان يمرّ بتجارب كثيرة مربكة وصدمات مفاجئة. لذا أسميت سنته بعام المفاجآت. (هذا كلام لا يوجد له نظير حتى في أغنيات شعبان عبد الرحيم).

"بالنسبة لبرج الحمل سنة مليئة بالأحداث (وهل هناك سنة خالية من الأحداث؟ والأحداث قد تكون زواجا أو سفرا أو إصابة بإسهال أو نيل ترقية أو فقدان بعض المال أو نجاح / رسوب العيال، إلخ). النصف الأول من السنة يحمل انقلابات طارئة، (الحمد لله فعبد الفتاح البرهان من مواليد السرطان وعليه لن يقوم بانقلاب ثالث) وينهي (الحمل) دورة ويتجه نحو جديد. يواجه مفاجآت سلبية وأخرى إيجابية، (انظروا العبقرية: أليس من البديهي ان تنتهي دورة لتأتي أخرى. ثم انتبهوا ل"مفاجآت سلبية وأخرى إيجابية". يا سلام على الفهلوية).
 
وفي برج آخر تقول: إن أفضل فترات الحظ تكون بين 22 كانون الثاني/ يناير و4 حزيران/ يونيو. فهذه الفترة ستكون ممتازة، "إذا حلم بسفر، سيحققه". (وإذا لم يحلم تكون راحت عليه؟ وهب أنه حلم بالسفر الى غوانتنامو، هل سيتحقق الحلم؟). "وسيتوصل هذا العام إلى حب مميز (ما هو الحب المميز؟ هل هو النوع الذي تغنت به المطربة التونسية لطيفة: حبك هادي وأنا ملّيت الحب العادي؟ ويمنعني الحياء من سؤال لطيفة عن الحب غير الهادئ / فوق العادة).

كان للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عرافة تمنعه من اتخاذ أي قرار يوم الأربعاء باعتبار أنه يوم نحسه، ففي ذات أربعاء أصدر أمرا إلى القوات الجوية بقصف بوليفيا، وتم تجاهل الأمر إلى أن جاء يوم الخميس وصدر الأمر بأن تكون ليبيا هي المستهدفة بالقصف.

وهناك من بشرتهم أو أنذرتهم الكاهنة بأجواء متوترة تسودها الثورة والغضب والاحتجاج (الثورة والاحتجاج في مكان العمل أم في صنعاء أم دارفور؟)، ويخضع لعلاج إذا كان مريضاً ولا يجب أن يستهتر في الأمر (يا عيني على الحكمة.. وهل يخضع الإنسان إلى العلاج إذا لم يكن مريضا؟)، "في النصف الثاني من السنة، يلتقي بنصفه الثاني إذا كان عازباً أو يعاود اللقاء بأحباء بعد غياب، ويشهد زوال علاقة عاطفية بالية ويعيش ولادة علاقة أخرى (هذا اتهام صريح لمواليد هذا البرج بأن عيونهم زائغة وأنهم لا يتسمون بالوفاء، وعندهم خيارات لا تتوفر حتى في "من سيربح المليون").

الأمريكان الذين نصبوا أنفسهم رسلا للحضارة والتمدن أكثر أهل الأرض هوسا بالطوالع، والشرطة الأمريكية تستعين بالعرافين لفك طلاسم بعض الجرائم، وقبل سنتين تداعى منجمو أمريكا الى مؤتمر في شيكاغو لتكوين نقابة ترعى مصالحهم، وفي اليوم المحدد لذلك المؤتمر هبت عواصف هوجاء عطلت الملاحة الجوية وأصدر منظمو المؤتمر بيانا بتأجيله الى موعد لاحق، ولم يعتذروا لعجزهم حتى عن التكهن بالأحوال الجوية.

وكان للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان عرافة تمنعه من اتخاذ أي قرار يوم الأربعاء باعتبار أنه يوم نحسه، ففي ذات أربعاء أصدر أمرا إلى القوات الجوية بقصف بوليفيا، وتم تجاهل الأمر إلى أن جاء يوم الخميس وصدر الأمر بأن تكون ليبيا هي المستهدفة بالقصف.