كتاب عربي 21

كيف أدى "التهديد" الإيراني إلى التحالف العربي مع إسرائيل؟

جوزيف مسعد
1300x600
1300x600
انطلقت الأسبوع الماضي حملة كبيرة مناهضة للفلسطينيين في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي الخليجية، وكذلك بين أنصارهم في جميع أنحاء العالم العربي، أثارتها إدانة المتظاهرين الفلسطينيين في غزة للحرب السعودية والإماراتية المستمرة ضد الشعب اليمني. واتهمت الحملة الفلسطينيين بدعم إيران ضد السعوديين، لأنهم يدافعون عن ضحايا القنابل السعودية والإماراتية في اليمن. ارتعبت حركة حماس من حجم الحملة، واستنكرت الشعارات المناهضة للسعودية التي حملها المتظاهرون.

كان انتصار الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ قد تسبب بصدمة عارمة عبر شبه الجزيرة العربية، فقد شعرت العائلات الحاكمة وطغاة الممالك العربية حينها، والتي كانت حليفة تابعة للشاه لعقود، بتهديد الإرادة الشعبية للشعب الإيراني. فبعد أن صمد طغاة الخليج أمام الحركات الاحتجاجية والعمالية والنضالات الثورية في بلادهم منذ الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات، حيث نجحوا أخيراً في هزيمة ثورة ظفار في عام 1975 واحتواء وتطويق جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وكانوا يأملون في أن ينعموا في النهاية بالراحة والاسترخاء بأمان، لكن انتصار الثورة الإيرانية بدد آمالهم تلك مما دفعهم على الفور لرعاية حرب عراقية شاملة ضد إيران الثورية لتقويض الثورة. ولكنهم بدلاً من تقويضها، أفلسوا العراق وضحوا بمليون ونصف مليون إيراني وعراقي من أجل الحفاظ على عروشهم.

لكن المشكلة التي واجهوها لم تكن تهديداً عسكرياً ثورياً إيرانياً، بل كانت معركة من أجل الشرعية في قلوب وعقول الشعوب العربية. كان لدى العائلات النفطية العربية الحاكمة مهمة مزدوجة، الأولى عسكرية وهي هزيمة إيران في الحرب، والثانية سياسية، وهي منع الثورة من أن تصبح مصدر إلهام للعرب الذين يعيشون في ظل أنظمة دكتاتورية على شاكلة ديكتاتورية الشاه. وقد سعوا من خلال تحقيق هذين الهدفين إلى إعلان إيران وثورتها على أنهما العدو الوجودي لجميع العرب. لكن المشكلة التي واجهتهم هي أنه كان لدى العرب بالفعل عدو وجودي، ألا وهو دولة إسرائيل، المستعمرة الاستيطانية اليهودية. لقد حاولت الولايات المتحدة منذ خمسينيات القرن الماضي إجبار الشعوب العربية على اعتبار الاتحاد السوفييتي عدوها الأساس، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في المهمة، لذلك كانت المهمة المنوطة بالمملكة العربية السعودية، زعيمة المجموعة، مهمة صعبة للغاية.
بدأ السعوديون جهودهم السياسية لاستبدال إيران بإسرائيل كعدو رئيس لجميع العرب، وإشهار دعمهم لإسرائيل كصديق للعرب بالتزامن مع الغزو العسكري الصَدّامي الذي رعاه طغاة الخليج المدعومون أمريكياً. أمل طغاة الخليج بأن تصبح إسرائيل حليفهم ضد عدوهم الإيراني

بدأ السعوديون جهودهم السياسية لاستبدال إيران بإسرائيل كعدو رئيس لجميع العرب، وإشهار دعمهم لإسرائيل كصديق للعرب بالتزامن مع الغزو العسكري الصَدّامي الذي رعاه طغاة الخليج المدعومون أمريكياً. أمل طغاة الخليج بأن تصبح إسرائيل حليفهم ضد عدوهم الإيراني، لا سيما وأن إسرائيل، مثل ديكتاتوريات الخليج، كانت حليفاً وثيقاً للشاه ضد شعبه وضد الشعوب العربية، الأمر الذي أكسبها العداء الدائم للنظام الثوري الإيراني.

وقد كان الطريق أمام السعوديين طويلاً وشاقاً، لكن لم يكن أمامهم خيار آخر. وقد بدأت الاستراتيجية عبر إصدار خطة سلام ولي العهد الأمير فهد في عام 1981، والتي وعدت بالاعتراف العربي بالمستعمرة الاستيطانية اليهودية شريطة أن تنهي إسرائيل احتلالها للأراضي التي احتلتها عام 1967 وتسمح بإقامة دولة فلسطينية. كان يؤمل أن ينهي هذا مكانة إسرائيل كعدو رئيس للعرب، وحظيت الخطة بإشادة الأمريكيين ولكن بحذر، بينما رحب بها ياسر عرفات ورفضها أنور السادات لأنها لم تأخذ في الاعتبار اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978. أما الإسرائيليون فرفضوها، وإن رحبوا باعترافها غير المباشر بإسرائيل.

لكن الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلاله عام 1982، وهو ما أدى إلى الهزيمة النهائية لمنظمة التحرير الفلسطينية وطردها من لبنان، عرقل استراتيجية خطة الأمير فهد الذي أصبح ملكاً في شهر حزيران/ يونيو بعد أسبوع من الغزو الإسرائيلي. وفي 1 أيلول/ سبتمبر 1982، وفي خضم تفاعلات هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية، وقبل أيام من انعقاد قمة جامعة الدول العربية في مدينة فاس بالمغرب، والتي كان من المقرر، بناءً على أوامر سعودية، أن تتبنى خطة الملك فهد، أصدر رونالد ريغان "خطة سلام" جديدة كانت بمثابة تصحيح لخطة فهد، رفض ريغان فيها إقامة دولة فلسطينية، إضافة إلى اشتراط عدم تمثيل الفلسطينيين كطرف مستقل في أي مفاوضات عربية مع إسرائيل. وقد رفضت إسرائيل خطة ريغان على الفور.

تبنت جامعة الدول العربية خطة فهد، وبذلك أقرت أخيراً باستعدادها للاعتراف بشرعية الاستعمار الاستيطاني اليهودي، ولكن فقط على 78 في المائة من فلسطين التي استولى عليها الصهاينة في عام 1948 ولكن ليس على 22 في المائة منها التي احتلوها في عام 1967. لم تعلن القمة عن رفضها لخطة ريغان ولم تنبس ببنت شفة عن السياسات الأمريكية المعادية للفلسطينيين، وهو ما اعتبر حينها انتصاراً للنظامين السعودي والأردني، لكن العاهل الأردني الملك حسين هرع عائدا إلى بلاده وأعلن قبوله بخطة ريغان.

أما عرفات المهزوم، الذي كان يغازل الولايات المتحدة منذ منتصف السبعينيات مستجدياً إياها بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد وصل إلى عمان في تشرين الأول/ أكتوبر 1982، وبتوجيه من السعودية، ليعلن موافقته على فكرة أن يقوم الأردن بالتفاوض مع الولايات المتحدة نيابة عن الفلسطينيين. وقد تم التعاقد من الباطن مع عرفات لإعادة مصر، التي طردتها جامعة الدول العربية بسبب استسلامها لإسرائيل في "سلام منفصل" في كامب ديفيد، إلى الحظيرة العربية بحيث يتم الآن توحيد كل العرب مع إسرائيل ضد العدو الإيراني الجديد. وفي طريقه من لبنان إلى منفاه الجديد في تونس في كانون الأول/ ديسمبر 1983، توقف عرفات في مصر وأخذ حسني مبارك بالأحضان علانية.
تم تقويض الخطة السعودية الأمريكية، عسكرياً وسياسياً، ولم يكن بمقدور الدعاية الخليجية المعادية لإيران زحزحة إسرائيل من مكانها الصحيح والمستحق كعدو رئيس لكل العرب

لكن تم إحباط هذه الجهود بسبب التعنت الاستعماري الإسرائيلي، والتحديات التي واجهها عرفات في داخل منظمة التحرير الفلسطينية نتيجة تنازلاته، والتزام الملك حسين الراسخ بمخطط ريغان، وبعد ذلك نتيجة الانتفاضة الفلسطينية في 1987-1993، والهزيمة العسكرية التي ألحقها الإيرانيون بصدام في عام 1988. وهكذا فجأة، تم تقويض الخطة السعودية الأمريكية، عسكرياً وسياسياً، ولم يكن بمقدور الدعاية الخليجية المعادية لإيران زحزحة إسرائيل من مكانها الصحيح والمستحق كعدو رئيس لكل العرب.

أفلس نظام صدام بسبب الحرب التي شنها بناء على أوامر من الأنظمة الخليجية التي تخلت عنه بعد هزيمته، ما دفع صدام لغزو الكويت في آب/ أغسطس 1990. ونتيجة غزوه، انهال على صدام جبروت القوة العسكرية للإمبريالية الأمريكية وحلفائها العرب وسحقته. استخدمت الولايات المتحدة والسعودية هذه المناسبة كفرصة لمحاولة جديدة للتطبيع مع إسرائيل ودمجها في المنطقة. ففي أعقاب تحرير الكويت عام 1991، نظمت الولايات المتحدة مؤتمر مدريد للسلام، ولم يُسمح للفلسطينيين، وفقاً لخطة ريغان، بالحضور إلا كجزء من الوفد الأردني، وذلك بعد أن تم فحص كل عضو فلسطيني مقترح من قبل الإسرائيليين، الذين رفضوا بدورهم عدداً من الأعضاء المقترحين.

وأدى مؤتمر مدريد بسرعة إلى الوصول إلى اتفاقية أوسلو، وتحويل منظمة التحرير الفلسطينية من حركة تحرير إلى سلطة متعاونين مع الاحتلال الإسرائيلي، وتم التعاقد معها من قبل الإسرائيليين لإخماد جميع أشكال المقاومة الفلسطينية لإسرائيل. أما الشوكة الوحيدة التي بقيت تنخز إسرائيل فكانت المقاومة التي عززها الاحتلال الإسرائيلي للبنان، بقيادة حزب الله. فقد أجبرت المقاومة اللبنانية الإسرائيليين على الانسحاب غير المشروط عام 2000، وكان ذلك انتصارا غير مسبوق على إسرائيل التي لم تنسحب من قبل من أي أراض عربية محتلة دون فرض شروط مذلة على الجانب العربي. أثار كون حزب الله منظمة شيعية مدعومة من إيران المزيد من القلق، ودق ناقوس الخطر عند الأمريكيين وأنظمة الخليج العربي.

وقد تفاقم هذا الوضع إبان الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003، الأمر الذي أدى إلى ظهور تيارات عراقية مناصرة لإيران في البلاد وإلى تقارب عراقي- إيراني، مما أثار استياء الأمريكيين والسعوديين. تم على الفور تصميم حملة طائفية جديدة لا تستهدف إيران فحسب، بل تستهدف الشيعة ككل باعتبارهم أعداء الشعوب العربية.

كان العاهل الأردني الملك عبد الله أول من أعرب عن قلقه من تشكيل ما أسماه بـ"الهلال الشيعي" عام 2004، الممتد بحسبه من إيران إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان. وعندما قام الإسرائيليون مجدداً بغزو لبنان عام 2006 وهزمهم حزب الله هزيمة ساحقة، أصيب السعوديون وطغاة الخليج بالهلع. فقد زاد شعورهم بالتهديد الإيراني لهم بسرعة فائقة، لكن إسرائيل ظلت هي، وليس إيران، العدو الرئيس للعرب. لقد بدا وكأن كل الجهود السعودية للتطبيع مع إسرائيل من خلال التضحية بالحقوق الفلسطينية، والتي استهلتها عبر إصدار خطة فهد في عام 1981 قد باءت بالفشل.
لم تنجح الخطة السعودية أخيراً على مستوى الدول في جعل إسرائيل الصديق وإيران العدو فحسب، ولكنها نجحت أيضاً في احتواء الليبراليين الجدد في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة

اشتدت الحملة الخليجية الطائفية بعد هزيمة إسرائيل عام 2006 في لبنان، ووصلت إلى ذروتها بقمع الثورة السورية عام 2011 والحرب الطائفية التي أعقبت ذلك بدعم سعودي وخليجي غير مسبوق. غدا النجاح في متناول اليد، حيث سيطرت الأنظمة الخليجية فعلياً على الغالبية العظمى من وسائل الإعلام العربية المطبوعة والمتلفزة، التي نقلت رسالتها الطائفية المعادية للشيعة والمعادية لإيران والمؤيدة لإسرائيل على نطاق واسع. وبلغ ذلك ذروته في تنامي علاقات خليجية سرية مع إسرائيل، ظهرت علناً وجهاراً في عام 2019 دون التقيد بأي من الشروط التي حددتها خطة فهد للاعتراف العربي بإسرائيل، وهي انسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية التي تم إسقاطها، حيث أمكن فتح العلاقات دون أي شروط. وبتوجيه من إدارتي ترامب وبايدن وبدعم كامل من الاتحاد الأوروبي، تم الإعلان عن تحالفات عسكرية وسياسية مع إسرائيل من قبل الإمارات والبحرين، ومؤخراً المغرب والسودان.

وفي مؤتمر وارسو الذي عقد في شباط/ فبراير 2019 وحضرته دول خليجية وإسرائيل، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الدول العربية "تجلس مع إسرائيل من أجل تعزيز المصلحة المشتركة للحرب مع إيران". أما العقبة الوحيدة المتبقية والثابتة أمام جعل إسرائيل صديقة العرب وحليفهم فكانت الشعب الفلسطيني.

لم تنجح الخطة السعودية أخيراً على مستوى الدول في جعل إسرائيل الصديق وإيران العدو فحسب، ولكنها نجحت أيضاً في احتواء الليبراليين الجدد في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ناهيك عن الأردن ومصر ولبنان، إضافة إلى العديد من المثقفين السوريين المنفيين الساخطين، لا سيما عبر توظيف هؤلاء لنشر الدعاية الخليجية في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. وبينما ذهب أنصار السلطة الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال والتي تسيطر عليها حركة فتح إلى حد اتهام حركة حماس السنيّة والمنتسبين لها في عام 2007 بأنهم "شيعة"، بسبب الدعم الذي تتلقاه حركة حماس من إيران، ورفض حماس التعاون مع إسرائيل، فإن أغلب الفلسطينيين والعرب لا يزالون يصرون على أن إسرائيل هي عدوهم الرئيس وليس إيران.

لقد فهم المتظاهرون الفلسطينيون الذين دافعوا عن الضحايا اليمنيين في غزة الأسبوع الماضي جيداً طبيعة التحالف السعودي- الإسرائيلي المناهض للفلسطينيين. وقد كان رد المثقفين والناشطين المناهضين لإيران والشيعة سريعاً، وقاموا بنشر رسالة مباشرة وموجزة مفادها أن بعض الفلسطينيين في غزة هم فقط أعداء إسرائيل وأعداء حلفائها من الأنظمة العربية، لكن إيران هي عدو كل العرب.
التعليقات (2)
منى غوشة
السبت، 29-01-2022 05:48 م
يعجبني تحليلك المترابط الواقعي والمقنع يا جوزيف. اتطلع دائما الى قراءة محتويات فكرك
هباء منثورا
الجمعة، 28-01-2022 10:46 م
الكل يعلم أن الصهاينة هم من جاء بالمتشردين إلى أرض فلسطين و هم من جعل آل الصفر ملوك و أمراء أما إيرانستان و حزبها ماتوا من قلوب الأمة يوم ذبحوا حرية الشعب السوري، لن يحمي فلسطين إلا أهلها و من يعبد الحق.