قضايا وآراء

الإنسان في القرآن (2)

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
قيل إن العارفين بالله كثيرا ما يتفوقون على علماء النفس المتخصصين في كشف أسرار النفس وخباياها، وفي هذا المعنى روي حديث يقول: "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله".

وهذا معنىً حقٌّ، إذ إن النفس البشرية لا تنجلي أسرارها إلا لمتجرد، وبقدر مجاهدة الإنسان نفسه ووقوفه على مسافة فاصلة عن ميول النفس وأهوائها، بقدر نجاحه في مراقبتها وتحليلها، بينما المتخصص الأكاديمي دون رياضة روحية يصعب عليه التجرد، إذ يختلط الذات بالموضوع والهوى بالحق. وللنفس حيل عجيبة في إخفاء دوافعها الحقيقية واختلاق الأعذار لأفعالها، وهذا ما لا يتفطن له إلا متجرد مجاهد لنفسه.

هل تخفى على الإنسان حقيقة نفسه؟

يقول الله تعالى في سورة البقرة: "أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ".

هذا يعني أن الإفساد في الأرض ليس دائما هو سلوك واعٍ، بل قد يُلبَّس على صاحبه فيظن أنه مصلح من حيث لا يشعر، ويضرب القرآن في ذلك مثال فرعون، فرغم فجاجة ظلم فرعون واستعلائه إلا أنه كان يرفع شعار محاربة الفساد في مواجهة موسى: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ".

ويمتدُّ خداع النفس لذاتها إلى يوم القيامة، حيث تصحب سلوك الكذب والخداع معها إلى مواجهة الله:

- "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ".

- "ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ".

هذا الكذب والخداع لا يعني أنهم على شيء، بل يعني إدمان حالة الكذب إلى الحدِّ الذي لا يستطيعون منه فكاكا، فهم لا يكذبون على الناس وحسب، بل يكذبون على أنفسهم أيضا؛ لأن الكاذب الذي يألف ويتحرَّى الكذب فإن ميزان الحق في فطرته يتشوَّه فتنطفئ بصيرته، ويظن الإفساد إصلاحا والباطل حقا.

هذا التشوُّه الداخلي لا يلغي الحقَّ الموضوعي في الوجود، والإصرار على الكذب والامتزاج والتماهي فيه لن يحيله إلى صدقٍ أبدا: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ".

ويرصد القرآن هذه الآلية الخفية في خداع النفس البشرية ذاتها في سورة القيامة: "بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ".

"المعاذير" هي الآلية التبريرية التي يتبعها الإنسان في الحياة من أجل تسكين شعور التناقض الداخلي، إذ إن الله تعالى قد فطر الوجود على العدل، فإذا اقترف الإنسان ظلما، فإنه يشعر بتناقض مرده التنافر بين فعله وناموس الوجود، لذلك استعمل القرآن كلمة "شقاق" في وصف الخارجين عن ناموس الوجود. والشقاق هو حالة داخل النفس تناقض حالة التوافق والسلام:

- "وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ".

- "وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ".

- "بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ".

- "مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ".

لكنَّ النفس لا تطيق حالة الشقاق والتناقض الداخلي وتبحث عن السلام والطمأنينة، لذلك يلجأ الظالمون إلى حيل تبريرية في محاولة لخداع أنفسهم بأنهم في حالة توافق مع قانون العدل في الوجود.

وحاجة الإنسان إلى التبرير ليس مردها السعي إلى إقناع الآخرين وحسب، بل هي محاولة لإقناع الذات أولا، لتسكين القلق الداخلي كي يشعر الظالم بالأمن والسلام في داخل نفسه.

فالقاتل مثلا حين يقترف جريمته يخاطب نفسه بعبارات مثل: "لقد أجبرني على فعل ذلك"، "كنت مضطرا ولم يكن أمامي خيار آخر"، والسارق يخاطب نفسه بعبارات مثل: "هذا المجتمع ظالم ولا يستحق الاحترام"، "فعلت ذلك لأني محتاج".

هذه حيل تبريرية يكذب بها الإنسان على نفسه، ويقوى هذا الكذب ويتمرَّس صاحبه عليه حتى تنتكس فطرته وتنقلب موازينه، فيفعل الشر ويظن أنه يحسن صنعا: "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً".

لذلك يذكِّرُ الله تعالى الإنسان في القرآن بالميزان الحقيقي الذي لا يتأثر بأهواء البشر والذي أودعه الله داخل النفوس، فإذا تجرَّدت رأت ذلك الميزان ببصيرتها: "بل الإنسان على نفسه بصيرة".

عِماد الإيمان هو الصدق الكامل، والفرق بين الإيمان والكفر كما يعالجه القرآن ليس فرقا بين قناعتين عقليَّتين، بل هو الفرق بين صدق الإنسان وتجرِّده أو كذبه وتبريره. والغاية التي يدفع القرآن إليها هي تزكية الإنسان أي تطهير عالمه الداخلي، فيكون قوَّاما بالصدق والعدل:

- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ".

- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ".

- "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ".

- "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ".

هذه هي قضية القرآن المركزية؛ تربية الإنسان القوَّام بالقسط والعدل والصدق والحق، وهي قضية تبيِّن لنا أصالة الاهتمام القرآني وجذريَّته في عالم الإنسان. قضية الإنسان الكبرى قبل تحسين مستواه الاقتصادي أو تدريبه على مهارات التواصل الاجتماعي أو منحه أدوات الرفاهية؛ هي تهذيب هذا الإنسان ليكونَ صادقا قائما بالعدل والحق، هذا هو الأساس الذي يبنى عليه كلُّ خير في الحياة.

الشخصية المتردِّدة المرتابة

ولأن اهتمام القرآن الرئيس هو تزكية النفس البشرية وتهذيبها لتتلاءمَ مع ميزان الحق والصدق في الوجود، فإن القرآن يقرِّع ذلك الفريق من الناس الذي يتصف بازدواجية الشخصية بين الظاهر والباطن. والقرآن يريد من الإنسان أن يكون شجاعا صادقا متصالحا مع ذاته، يوافق ظاهره باطنه.

يصف القرآن هؤلاء الذين يتناقض ظاهرهم مع باطنهم بأن في قلوبهم مرضا:

- "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ".

- "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ".

- "أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ".

- "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ".

- "يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ"

- "وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ".

- "قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ".

- "يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ".

- "مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ".

- "يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ".

مثل هذه الآيات التي تسلط الضوء على ازدواجية الشخصية تتوعَّد هؤلاء بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم اتسموا بالجبن وأفسدوا عالم الصدق الداخلي، وهو ما يؤسس لإفساد كبير في الأرض حين يتشرَّب عامَّة الناس الكذب والنفاق والازدواجية؛ فيضيع الصدق والعدل.

والكذب هو السمة العامة لكل الظالمين الذين يتوعدهم القرآن بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ويستحيل أن يكون هناك كافر صادق، أو ظالم صادق، فالكفر في لغة القرآن هو تكذيب بالآيات البيِّنات، والظلم والإفساد هو التعدِّي على حقوق الآخرين بينما يعلم المعتدي أن هذا ليس حقَّا له، لذلك لا يحتاج المرء للنجاة أكثر من أن يكون صادقا، فإن علِم الله فيه صدقا، هداه إلى الحقِّ وعذره فيما لم يبلغه علمه:

- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ".

- "لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً".

والصدق يقتضي فحصا دائبا ومتكررا لخفايا النفس وميولها، والتحقق من أغراضها إن كان دافعها في أي قول أو فعل هو الحق أم إرضاء هوى النفس.

ومن اليسير أن نتفق على هذا في العموم، لكن التحقق من الصدق ليس هينا؛ إذا علمنا أن أهواء النفس قد تكون دقيقة جدا، حتى إنها تخفى على صاحبها نفسه إذ يلبِّسها بعذر كاذب فتوهمه نفسه بأنه يتبع الحق بينما هو متبع لهواه، وهذا النور والفرقان لا يلقاه الإنسان إلا بالمجاهدة المستمرَّة:

- "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً".

- "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".

يتبع..

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)