هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع تصاعد احتجاجات مؤيدي الإطار التنسيقي للقوى الشيعية (تحالف انتخابي بين كتلة الفتح وكتلة دولة القانون وبعض الكتل الصغيرة)، وصولا إلى محاولات اقتحام المنطقة الخضراء، الذي أدى إلى مواجهات مع قوات مكافحة الشغب، التي خلفت عشرات الجرحى يوم الجمعة 5 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، توقع المراقبون والمختصون بالشأن العراقي، تصعيدا قد يقود إلى تصادم أعنف، وربما يصل حد الاقتتال المسلح بين جناحي البيت الشيعي المسلحين؛ التيار الصدري وجناحه المسلح “سرايا السلام” من جهة، والميليشيات الولائية المسلحة من جهة أخرى.
والكل بات متخوفا من هذا الاحتمال، لكن وفي الوقت نفسه، نجد العديدين وضعوا نصب أعينهم السيناريو الآخر، سيناريو يقوم على الاتفاق، والركون للمفاوضات، وتوزيع الحصص في حكومة سيكون للصدر فيها حصة الأسد، مع تقاسم الحصص مع الآخرين، الفائزين منهم والخاسرين في الانتخابات الأخيرة.
لا يستطع كل من دخل حلبة السياسة، أن يلعب ألعاب السياسة الخطرة المتمثلة بالدفع باتجاه حافة الهاوية، لكسب المواقف، لأن هذا النوع من السلوك السياسي له لاعبوه، الذين يمتلكون مهارات خاصة، واليوم نرى أن جماعة الإطار التنسيقي للقوى الشيعية في العراق تحاول الدفع باتجاه تصعيد الأزمة وإيصالها لحافة الهاوية والتفجر، لتكسب مواقف سياسية تحسّن عبرها من وضعها التفاوضي المقبل في تشكيل الحكومة، وقادة أحزاب الإطار التنسيقي يعتقدون أنهم يمتلكون الآليات التي يمكنهم استعمالها في أي لحظة لنزع فتيل الأزمة والعودة لطاولة التفاوض، ليبقى السؤال هل هم فعلا قادرون على اللعب بهذه الطريقة الخطرة؟
بالمقابل، نجد مقتدى الصدر يريد أن يستمتع بنشوة النصر، ليرد الصاع صاعين لارستقراطية التشيع السياسي في العراق وإيران، التي تعاملت معه بعد التغيير الذي حصل عام 2003 على أنه صبي ورث ما ورثه عن والده، تأييد تيار سياسي شعبوي ضخم متكون من فقراء الشيعة، الذين يحيون في هوامش المدن، لذلك لا يمكن أن يكون رقما مؤثرا في المستقبل السياسي العراقي، لكن الرجل حارب، وقاتل الأمريكيين والحكومة العراقية، وقدم فقراء تياره ومحبيه التضحيات الكثيرة، ثم تحول للعب السياسة باحترافية، فوصل في الانتخابات الأخيرة إلى فوز برلماني واضح، فوز لم يؤهله لتشكيل الحكومة منفردا، كما كان يتمنى، لكنه منحه نشوة أن تكون له اليد العليا في تسمية مرشح رئيس الحكومة لأول مرة منذ 18 عاما.
وبالتالي من المتوقع أن الصدر سيساير خصومه في اللعب على حافة الهاوية، وهو أكثر خبرة منهم في التوازن الخطر، واللعب على الحبال، إذ طالما مرّ بمواقف مشابهة وخرج منها يتبعه جمهور مليوني من المريدين المطيعين.
ويبقى السؤال المحرج الذي بات يوجه كل يوم لخاسري الانتخابات، وهم يثيرون الضجيج؛ ماذا تريدون؟ هكذا وبكل بساطة، لتبدأ لجلجة الإجابة، وينهال توزيع الاتهامات والشتائم، وتوزيع أدوار الخيانة على كل معارضيهم ومنافسيهم.
اتهامات بالخيانة توجه لحكومة الكاظمي، وللمفوضية العليا للانتخابات، ولدول الجوار الإقليمي، وربط كل ذلك عبر نظريات مؤامرة بإسرائيل والولايات المتحدة، في خلطة باتت سمجة وثقيلة دم، نتيجة تكرارها الممل الذي يقدمه ببغاوات الإعلام الولائي.
لدينا الآن صورة أولية هي؛ محاولة تجميع كتلة محورها الفتح ودولة القانون، تسعى لجمع فتات الكتل الولائية، وبعض الكتل السنية والكردية، لتكون كتلة هلامية كبيرة، تقف بوجه كتلة هلامية أخرى سيشكلها الصدر بالتحالف مع بعض الكتل السنية والكردية، والنتيجة سيناريو مشابه لما أفرزته نتائج انتخابات 2018، ومن دون تسمية الكتلة الأكبر في البرلمان، التي يجب أن يكلفها رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة، سيصار إلى ما تم في الانتخابات الماضية، وهو “رئيس حكومة توافقي”.
المتشائمون ينتظرون مع كل صراخ، انطلاق موجة الاقتتال الشيعي ـ الشيعي، وهم ربما لا يعرفون، أو يعرفون ويسعون للتشفي، أن هذا الصراع إن حصل سيحرق العراق بمكوناته، لأن مناطق السنة، وبدرجة أقل مناطق الكرد لن تكون بمنأى عن شرر الحرب الشيعية الداخلية، وإن القوى الإقليمية ستتكيف مع معطيات التغيرات على الأرض، وستبحث كل دولة من الدول الإقليمية عن مصالحها في حال اشتعلت الساحة العراقية باقتتال جناحي الشيعة المسلحين.
لكن غاب عن بال المتشائمين الدور الإيراني، الذي لن يسمح باقتتال شيعي ـ شيعي في العراق، ليس حبا بسواد عيون شيعة العراق، وإنما لأن عراق اليوم يمثل رئة إيران التي يتنفس عبرها الاقتصاد الايراني المتداعي، وإن اقتتال الحلفاء المتخاصمين، ستكون خسارته مركبة بالنسبة لمختلف مراكز صناعة القرار الإيراني.
يشير حارث حسن الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في هذا الشأن إلى أن “اهتمام إيران بالعراق سيبقى مرتبطاً بثلاث قضايا، تتمثل في إنهاء الوجود الأمريكي في البلاد، وضمان عدم وجود أي تهديد ضدها من العراق، واستدامة الحشد الشعبي. وأن تبقى السوق العراقية مفتوحة للبضائع الإيرانية، وقد يفضل الإيرانيون إحياء (التحالف الشيعي)، فهم لا يرون الصدر عدواً، لكنهم متنبهون لأخطار جعله يهمين على المشهد الشيعي، وقد يفضلون احتواءه تحت مظلة تحالف شيعي، مع الإقرار بأنه سيكون لديه صوت أقوى في تحديد من سيكون رئيس الوزراء القادم، وفي القضايا المتعلقة بالسياسة الداخلية”.
المتفائلون ينظرون إلى نصف القدح الممتلئ في الأزمة العراقية، فيتذكرون أن الكتلة الصدرية هي التي رجحت كفة الولاية الثانية للمالكي عام 2010، وهي التي كانت الداعم الرئيس لإنجاح العبادي وإفشال الولاية الثالثة للمالكي، وهي التي وافقت على ترشيح عادل عبد المهدي، وعندما استقال، هي التي مررت حكومة الكاظمي، وبالتالي فإنها ستكون فاعلة ومتفاعلة مع قوى الفتح ودولة القانون لتمرير حكومة 2021. وعلى الرغم من أن مقتدى الصدر كرر مراراً قبل الانتخابات الأخيرة رغبته في تعيين رئيس وزراء من تياره، لكن المراقبين يرون أنه لن يفعل ذلك في نهاية المطاف، وسيسير، وفق طريقته المواربة، باتجاه مرشح توافقي يملك الصدريون عائدات نجاحه إذا نجح، لكنهم سيتنصلون بسهوله من خسارته، إذا فشل أو تعرض لموجة رفض شعبي، كما حصل مع عادل عبد المهدي، لذلك يرى بعض المحللين في هذا الإطار أن “مصطفى الكاظمي يملك حظوظاً قوية للبقاء في المنصب”.
إدارة بايدن من جهتها تمارس سياسة النأي بالنفس، والإمساك بأطراف الخيوط عن بعد، لأنها لا تريد أن تتورط مجددا في “المستنقع العراقي”، حتى بدا أن مطالبة القوى الشيعية الولائية بإخراج القوات الأمريكية يثير ارتياحا لدى إدارة بايدن التي تريد أن تتفرغ لهموم الشرق الأقصى والصراع المقبل مع الصين، وذلك لن يتم إلا بالابتعاد عن صداع الشرق الأوسط ومحوره المتمثل بالصراع الإسرائيلي الإيراني وتداعياته في العراق وسوريا ولبنان.
كما أن من المتوقع أن تفتح جبهات اقتتال تدفع باتجاه التقارب وتمرير التوافقات بين الغرماء السياسيين، ومثال ذلك تحركات بقايا تنظيم الدولة (داعش) التي حصلت مؤخرا في قرى مدينة المقدادية في محافظة ديالى، التي أججت نوعا من الاقتتال الطائفي المحدود، الذي قد تلعب عليه أطراف خارجية لتأجيجه، وحينها سيكون هنالك تقارب “شيعي – شيعي” إجباري لمواجهة التهديد، لكننا شهدنا ما حصل مؤخرا في مجزرة المقدادية وتداعياتها، إذ حاول الولائيون تجيير ما حصل على أنه ضغط على فصائل الحشد لدفعهم للانسحاب من الاعتصامات والتظاهرات الرافضة لنتائج الانتخابات، وعندما ذهب العامري، ابن محافظة ديالى للتعزية، ومذكرا أهالي الضحايا بجهود الحشد الشعبي، التي حمت شيعة ديالى، فتعرض لرد قاس من شيخ قبيلة الضحايا. بينما على الجانب الآخر، ذهب رجال مقتدى لإقامة صلاة جمعة مشتركة بين سنة ديالى وشيعتها، وطرح الصدر نفسه رمزا للتقارب المذهبي، وليس طرفا داعما لجهة طائفية ضد خصومها من القرى المجاورة.
ليستمر الصراع بين جناحي الشيعة ويبقى المشهد العراقي مفتوحا على جولات أخرى.
عن القدس العربي اللندنية