قضايا وآراء

تنظيمات الإسلام السياسي: نهاية القراءة الحالية

كمال القصير
1300x600
1300x600
أتحدث في هذا المقال بالتحديد، عن التنظيمات الإسلامية العربية التي تتبنى فكرة الإسلام السياسي كأيديولوجيا خفيفة أو ذات كثافة عالية. وسبب هذا التحديد هو أن الإسلام السياسي أكبر من التنظيمات الإسلامية، فهو الصورة التاريخية الملازمة لحضور الإسلام في العالم من الناحية السياسية، وبهذا الاعتبار فإنه سيكون دائم الحضور.

كما أن صورة الإسلام السياسي لا تتبناها التنظيمات الإسلامية فقط، حيث نجد في الفكر السياسي المغربي المعاصر أن فكرة إمارة المؤمنين أيضا شكل للإسلام السياسي وفق الصيغة المغربية؛ تتجاور مع كل المعطيات الحداثية للدولة، وسابقة على التنظيمات الإسلامية التي نشأت متأخرة في المغرب.

استمرار التنظيمات الإسلامية العربية في التفكير بنفس الطريقة التي تأسست عليها يعتبر انتحارا بطيئا؛ بتقديم نفسها للمنطقة والعالم بنفس العرض والقراءة السابقة للإسلام من الناحية السياسية. فلا أحد يكلف نفسه عناء البحث في مدى صلاحية هذا العرض الذي يقدمونه لفكرة الإسلام السياسي وفاعليته مستقبلا.

لكن قبل التفصيل علينا الاعتراف بأن مشكلة غير الإسلاميين هي نفسها تكشف أهمية التنظيمات الإسلامية. فالجميع يطالبون الإسلاميين بتصحيح الأوضاع، كلما وقعت الهزائم والانتكاسات. وهذا اعتراف بدورهم بشكل غير مباشر، كأنهم المطالبين وحدهم بتحمل أعباء إصلاح المنطقة بأكملها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وإلا كيف نفسّر التغاضي عن مطالبة النخب الإصلاحية المختلفة للقيام بدورها والإتيان بالجديد، طالما قد فشلت التنظيمات الإسلامية؟ لا يمكن إذن أن نطالب المجموعات الإسلامية بما لا نطالب به النخب الإصلاحية الأخرى، وصناع الفكر والرأي، كما لا يمكن مطالبتهم بما لا يمتلكونه في الوقت الحالي.

موت القراءات والأفكار الأساسية في التاريخ قانون عام للتجديد والتطور، لكن موجة من الأحلام الجديدة والخيال الواسع والعواطف الجياشة هي أكثر ما يفتقد في الوضع الحالي. الحلم والخيال يعتبر نقطة انطلاق أساسية لأي مشروع داخل مظلة الإسلام السياسي، كما أن الخيال كان تاريخيا أساسا لتشكل عدد من التجارب السياسية الناجحة، مثل فكرة المهدوية الخيالية التي جاءت بالفاطميين، أو فكرة البيعة للرضا من آل محمد الخيالية التي جاءت بالعباسيين.

كل البدايات التأسيسية تتطلب قدرا من العصبية حولها؛ عصبية التنظيم، وعصبية الفكرة الجامعة. أما عصبية التنظيم فهي عصبية فرعية، بينما عصبية الفكرة تعتبر عصبية أساسية. وقد تعمل أعطاب عصبية التنظيم، على الإضرار بعصبية الفكرة الجامعة.

استمر مفعول العصبية الأولى التي أسسها الإسلاميون العرب في بدايات القرن العشرين. دورة زمنية كاملة بمعدل قرن، لتصل إلى النتائج التي رأيناها بعد الثورات العربية. وبنفس المقدار سوف تتطلب الأفكار الجديدة أيضا مدة زمنية في حدود جيلين أو ثلاثة، لتجاوز الوضع الراهن.

الحمض النووي للتنظيمات الإسلامية العربية بوضعها الحالي يعتبر المشكل والعائق الأساسي لتطور الإسلام السياسي، والإصابات التي تعرضت لها هذه المجموعات توجد في مكانين أساسيين، لا صلة لهما بالانتخابات والانقلابات، باعتبارها مجرد محفزات (catalysts)، وهما: تفكك العصبية، وانتهاء صلاحية القراءة التنظيمية الحالية للإسلام كسياسة.

لم تتمكن عصبية المجموعات الإسلامية العربية من التحول إلى سلطة فعلية في المنطقة العربية، فقد أسّس الإسلاميون عصبيتهم الفكرية والمذهبية على معطى "هم" و"نحن". وهذا كان كافيا لاستجلاب كل المعارك والمشكلات والانقسامات التاريخية إلى الممارسة في الواقع، حيث يصعب أن تُبنى على هذا التقسيم الذي حاولوا كثيرا التخفيف من حدته؛ عصبية اجتماعية مشتركة واسعة. لقد كان محكوما على أشكال التعبير بهذا التصنيف منذ البداية.

مبدأ "هم" و"نحن" يصلح لتشكيل العصبيات الكبرى، التي يكون الصراع فيها على مستوى الحضارات من الناحية الثقافية والقيمية، في حين يُعتبر توظيفه داخل أنساق ثقافية لغوية واحدة أبرز علامات الفشل في بناء العصبيات.

نموذج العصبية التي تتأسس عليها الأفكار الكبرى، هو المدخل الأساسي لأي نموذج فاعل. ومن وجهة نظر تاريخية يقتضي بناء العصبية الجديدة انسحاب قيادات جيل الآباء السابق، فهم لا ينتمون فقط زمنيا إلى المرحلة الماضية، بل ينتمون ذهنيا إلى منطقة يصعب بناء عصبية جديدة على قاعدتها.

الثورات العربية في الحقيقة عنوان لنهاية القراءة الحالية لهذه المجموعات للإسلام السياسي، لا بدايتها. كانت عنوانا لبلوغ أفكار المجموعات الإسلامية العربية المرحلة النهائية من الفاعلية. لقد بدأت نهاية القراءة العربية للإسلام السياسي بشكل أدق قبل الثورات العربية، وكانت أفكاره تعيش في مأزق، وحالة من الجمود، ومجرد فكرة تبشيرية، حتى أخرجتها الثورات إلى العلن وامتحنت المشاركة في السلطة مقولاتها.

لا شك أن الإسلاميين في المغرب، كما في أماكن أخرى قريبة في المنطقة وخارجها، حيث يوجد الإخوان المسلمون؛ ممن تعرضت مجموعاتهم لهزات عنيفة من الناحية السياسية والتنظيمية والاجتماعية، يعانون من غير شعور، من مرض تفكك العصبية، ويعكفون الآن على ترميم التنظيمات، بعد خسارة الانتخابات بالنسبة للبعض، أو بعد خسارة الوطن بالنسبة لآخرين.

لكن ترميم التنظيمات أسهل في الحقيقة من ترميم العصبيات والأفكار. تفكك العصبيات يصعب ترميمه، ويتولد من التفكك غالبا مجموعات جديدة. ويستطيع الإسلاميون وفق منطق المراجعات أن يقوموا عبر التفاهمات بتغييرات على مستوى القيادات الكبرى والمحلية، لكن فكرة المراجعات تعتبر خاطئة إذا كانت تفترض إصلاح الأعطاب التنظيمية، دون إصلاح أعطاب القراءة الحالية.

سوف يفكر الإسلاميون الآن بمنطق المرحلة الانتقالية، وسيقولون في أنفسهم ولبعضهم بعضا في اجتماعاتهم: علينا أن نتجاوز هذه المرحلة الانتقالية، لكن فكرة المرحلة الانتقالية هي نفسها تبدو جزءا من المشكلة، إذ أقصى ما يبلغه تفكير الإسلاميين هو الخروج من المراحل الانتقالية بتغييرات تنظيمية.

المراحل الانتقالية كفكرة جاءت في الأساس لتنظيم الانتقال من نموذج إلى نموذج آخر، مختلف تماما من الناحية السياسية والفكرية والاجتماعية. والحاجة لهذه الفكرة هي لترتيب الانتقال بدون حدوث هزات عنيفة، في الانتقال من البرودة إلى الحرارة.

ردود فعل الإسلاميين لا تساوي فيزيائيا في الوقت الحالي حجم فعل الهزيمة السابق، إذ تبدو الهزيمة كبيرة جدا، كما يبدو رد الفعل بسيطا جدا. فكرة المراجعات تفتقر إلى الفاعلية لسبب بسيط؛ هو أن المراجعات لم تكن يوما هي السبب المباشر لتموضع الإسلاميين، خاصة بعد الثورات العربية.

فقد تأسس وضعهم بعد الثورات على قاعدة التحولات الذهنية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات في لحظة معينة، أما المراجعات فقد كانت تاريخيا حلاّ تنظيميا أو جلسات اعتراف بأخطاء المرحلة السابقة، لكنها لم تكن رؤية ومشروعا بديلا بعيد المدى، وتكون في أحسن الأحوال مجرد موقف سياسي أو قرار.

يستمر الجميع في حالة الإنكار، فآثار المراجعات لن تمتد في الغالب إلا إلى الناحية التنظيمية، ولذلك فإننا لم نر ولن نرى في المستقبل القريب المنظور أية تغييرات على مستوى الفكرة التأسيسية ومدى صلاحيتها وقدرتها.

التكنوقراط الإسلاميون هم الفئة الغالبة على تيارات الإسلاميين، خاصة التنظيمات التي مارست السلطة لفترات معينة، فهذا كان مطلبا أساسيا لإدارة السلطة. وبهذا التضخم التكنوقراطي أصبح من العسير القيام بخطوات تجاه عصبية الفكرة؛ تراعي ديناميات التحول التاريخي والاجتماعي في المنطقة والعالم.

بناء عصبية جديدة سيواجه تحديا آخر؛ يتعلق بتراجع مستوى الصراعات الفكرية في المنطقة مستقبلا. والسبب الذي يفسر هذا التراجع المحتمل، هو الضعف الحاصل على مستوى البنى الفكرية للتيارات الدينية وغيرها في المنطقة العربية عموما. وبسبب صعود فكرة التنمية، وهواجس تحقيق معدلات الرفاه، سوف تقلّ إذن حدّة الصراعات الفكرية، لتعوضها الصراعات ذات الطبيعة الاجتماعية.

لقد غذّى اليسار والإسلاميون المواجهات الفكرية في المنطقة لزمن، فقد كان ذلك محّرك الدفع الأساسي لمشروعهم ورؤيتهم لمستقبل المنطقة العربية، واستدعى كل فريق شواهده وأدلته ومرجعيته من التاريخ.

هنالك جزء أساسي من التنظيمات الإسلامية غير مشارك في أي عملية سياسية، مثل جماعة العدل والإحسان المغربية. وهم أيضا يخطئون التقدير بظنهم أنهم بمنأى عن التأثر بالتحولات الحالية، ذلك أن تصدع القراءة الحالية للإسلام كسياسة، يشمل كل التنظيمات المشابهة في الأيديولوجيا. إن بناء النماذج القادمة يخضع لضرورة استحضار المعطيات السابقة، حيث تخفت حدة المواجهة الفكرية التي تعتبر سلاحا أساسيا بالنسبة لهذه المجموعات.

ماذا بعد القراءة الحالية للإسلام كسياسة؟ لا ينبغي الادعاء بامتلاك شخص واحد أو مجموعة واحدة الجواب عن سؤال بهذا الحجم، لكننا لا نتحدث هنا عن التدابير البسيطة لمحاولة الرجوع إلى وضع وموقع أفضل في الحياة السياسية بعد الهزيمة، إذ ما زال البعض يربط استمرار صلاحية القراءة الحالية بإمكانية العودة لمواقعه السابقة التي خسرها بالأمس.

عندما تصبح مجرد العودة مستقبلا إلى المواقع التي غادرتها، أهم هدف مستقبلي تبني خططك على قاعدته، فذلك دلالة كافية على تصدع كل الأفكار الأساسية. لكن بإمكاننا أن نقدم توقعات بالنظر لطبيعة المعطيات الحالية، وأتحدث هنا عن أن المجموعات الإسلامية العربية سوف تدخل مرحلة من التيه الفكري والسياسي؛ في ما يتعلق بطبيعة القراءة السياسية التي أنجزتها للإسلام منذ أكثر من قرن.

الخروج من مرحلة التيه يحتاج إلى حدوث تحولات كبرى في مستوى تأثيرات الثورات العربية، وسوف تستمر دائرة التيه الفكري بالاتساع، بالنظر إلى ضعف وفرة القيادات الفكرية، وعدم تمكنها من تسيير دفة الأمور، لصالح تغول التكنو-إسلاميين.

نجاح فكرة العصبية من جديد، يتطلب توفر جيل الأبناء على المواصفات الذاتية والواقعية، التي تسمح بانتقال العصبية إليهم. والواقع أن جيل الأبناء الحالي هو نفسه يبحث عن الحلول، وفق مقترحات جيل الآباء، وتحت مظلة عرضهم السابق لمشروع الإسلام والدولة.

التنظيمات الإسلامية العربية تشبه تيار اليمين في العالم، سوف يصعد نجمها أحيانا لظروف معينة، ويخفت حضورها في فترات أخرى، لكنها لا تختفي بشكل كامل. وكلما تعلق الأمر بالهوية والثقافة يزداد حضورها، وكلما تعلق الأمر بالعملية السياسية والانتخابات تتراجع في النهاية، ويبدو أنها ستمضي في هذا الاتجاه مستقبلا.
التعليقات (0)