آراء ثقافية

لعبة الحبار "Squid Game".. تأمل لمعنى الحضارة والإنسان!

من مستويات الإبداع في المسلسل إحكام السيناريو إحكاما لا يسمح بافتعال حدث أو تقديم شخصية غير متسقة مع ماضيها- نتفليكس
من مستويات الإبداع في المسلسل إحكام السيناريو إحكاما لا يسمح بافتعال حدث أو تقديم شخصية غير متسقة مع ماضيها- نتفليكس

ثمة سحر لا يكاد متذوقو الدراما يقاومونه في المسلسل الكوري الجنوبي "لعبة الحبار"؛ ذلك السحر الذي دفع المسلسل سريعا إلى قائمة أكثر عشرة مسلسلات مشاهدة على شبكة نتفليكس، مع توقع رئيسها التنفيذي المشارك تيد ساراندوس أن يتربع المسلسل على عرش "الأكثر مشاهدة" من بين مسلسلاتها خلال الفترة القادمة.

أُطلِق المسلسل يوم 17 سبتمبر الفائت. وبحسب تصريحات صُناعه، لم يتوقعوا له هذا النجاح الهائل، الذي دفع مزود شبكة النت في كوريا الجنوبية إلى مقاضاة نتفليكس ومطالبتها بتعويضات بسبب الضغط الكبير من مستخدميها على الشبكة لمشاهدة المسلسل، وما نجم عن ذلك من أضرار. ما السر إذن؟

ثمة ملحوظة أولى يمكننا طرحها. أحدث المسلسل دويا على ساحات السوشيال ميديا في ثقافات شتى. مثلا لاحظتُ أنا وكثير من معارفي أن المسلسل شغل الفيس بوك في مجمل الساحة العربية، مع أنه لا يعالج قضية عربية أو هما عالميا مرتبطا بالصراع العربي الإسرائيلي مثلا. وكما داعب المسلسل خيال المشاهد الآسيوي، لارتباطه بدولة آسيوية، فقد لفت الانتباه المشاهدين في أوروبا وأمريكا، ولعل هذا يدفعنا للنقطة التالية: الشخصيات.

أظن أن عوامل كثيرة تضافرت لإنجاح المسلسل. أهمها تركيب شخصيات أبطاله. لا يبدو للمسلسل بطل واحد فائق، مسيطر، رغم محورية دور الأب "جي هون" أو اللاعب رقم 456، وهو أب مستهتر، مدمن للقمار، انهار زواجه وحُرم من طفلته بعد سفرها لأمريكا مع والدتها... وذلك بسبب إهماله وإدمانه القمار، الذي دفعه إلى سرقة أمه أحيانا ليقامر بمالها. لكن مع محورية دور الرجل، ثمة قصص متنوعة بتنوع سائر الأبطال، ما بين مهاجر باكستاني مسلم يستغله صاحب عمله، وقيادي فاسد بشركة أعمال كبرى وشابة تحاول إنقاذ أخيها الصغير، ومهاجر فارّ من كوريا الشمالية..


بتقنية درامية محكمة، يستعرض المسلسل قصة كل لاعب في الوقت المناسب، دون افتئات على أدوار غيره، وفق ترتيب منطقي مقنع، يجعلنا نرتبط بكل بطل منهم، أيا كان حبنا أو كرهنا له، بما يذكي الرغبة في معرفة أين سينتهي هذا الكهل أو تلك الشابة، وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى مهمة: موضوع المسلسل ذاته.

يعالج المسلسل إشكالية الألعاب الحديثة وإدمانها، وما أحدثته التقنيات الحديثة من ثورة في مضمار هذه الألعاب التي جرؤ بعضها على دفع النشء إلى الانتحار في دول مختلفة، لكن المسلسل تحاشى هذا المسلك، وانطلق إلى مجال أكثر سحرا ودهشة.

صرح مخرج المسلسل ومبتكر فكرته أنه حين فكر في مسألة الألعاب الحديثة وجد أن محاكاتها أو التعاطي معها أمر معقد، وربما يثقل على الشخصيات لأن المشاهد سيستغرق في محاولات فهم اللعبة وشروطها وقوانينها، فارتأى أن يصمم مجموعة من الأثرياء لعبا مستوحاة من عالم الطفولة، مثل اللعبة الكورية المعروفة: "الضوء الأحمر... الضوء الأخضر" وغيرها من الألعاب التنافسية، مع فارق بسيط: يُقتل كل من يخسر اللعبة!

وهذا مدخل آخر لانبهار كثيرين بالمسلسل. ثمة سحر في تعرية مشاعر البشر وغرائزهم. نحن ما زلنا نحمل روح الغابة، القوي فينا يفترس الضعيف، لكن بالقدر الذي يسمح به القانون الحديث والرأسمالية الغربية "البيضاء"، التي تغمض عينيها عن مجازر شتى، لمجرد أنها لا تنال أبناء تلك الرأسمالية. أما في لعبة الحبار، فكل شيء عارٍ مكشوف، الأثرياء الممولون للعبة يتمتعون بالفرجة على اللاعبين الذين يقتلهم الحراس فور خسارتهم، أو الذين يقتلهم زملاؤهم اللاعبون أيضا ليتخلصوا من منافستهم.

ثمة أكثر من مستوى للإبداع في هذا المسلسل، منها إحكام السيناريو إحكاما لا يسمح بافتعال حدث أو تقديم شخصية غير متسقة مع ماضيها أو حتى مستقبلها في اللعبة. لا تساهل البتة في أية تفصيلة. أدهشني أنه عند لعبة شد الحبل الشهيرة، حين نصح العجوز الخبير فريقه بأن يختاروا أقواهم وأثبتهم ليقف في المقدمة لأن ملامح وجهه تؤثر في الفريق المنافس، حين فعل ذلك، كنا قد شاهدنا منذ لقطات كيف انهار فريق كامل وخسر حياته لأن الرجل الواقف في مقدمة الفريق كان سريع الخوف، انهزاميا، يظهر الرعب في ملامحه سريعا.

 

اقرأ أيضا: المسلسل الكوري "سكويد جيم" يتصدر قائمة نتفليكس

ربما لذلك السبب استطاع المسلسل إبهارنا في مواضع عدة، حين تظهر ميول ما لإحدى الشخصيات إلى تدمير ذاتها أو غيرها؛ خاصة حين يكون ذلك متسقا مع طبيعتها التي يمكننا توقعها بسبب سلوكها السابق وماضيها. من أبرز تلك المواقف اللحظة التي قتل فيها رجل الأعمال نفسه، بينما كان منافسه "بطل المسلسل" يدعوه لتفعيل قانون إنهاء اللعبة إذا اتفقت أغلبية اللاعبين على ذلك، وفي تلك المرحلة لم يكن سوى متنافسين، وكان أحدهما "وهو البطل" يدعو غريمه المهزوم إلى إنهاء اللعبة مضحيا بالجائزة الهائلة "38.7" مليون دولار تقريبا، حتى لا يضطر إلى قتل غريمه، المنهار جسديا.

وحين رأى رجل الأعمال الفاسد أنه لن يفوز أبدا، اختار أن يقتل نفسه بنفسه ليمنح خصمه الجائزة، فقد أقدم الرجل على محاولة الانتحار قبل المشاركة، لأنه كان يائسا تماما من تسديد ديونه أو الفرار من الشرطة. كان أمره منتهيا لأن مشاركته في اللعبة كانت مرهونة باحتمال فوزه فقط لا غير، لذا جاء قراره بقتل نفسه (رغم استماتته على قتل منافسيه من قبل وبكل الطرق)، جاء قراره هذا "مخدوما" دراميا عبر تقديم خلفية الرجل ودوافعه وقراراته السابقة.

ثمة رؤية تشكيلية بالغة الخصوصية للمسلسل، أتصور أنها خلقت له هوية بصرية تخصه وحده؛ ما بين ساحات رحبة لممارسة اللعبة، ذات ألوان فاتحة حد البياض الشاهق أحيانا، وممرات ملونة بالزهري والأصفر والسماوي الفاتح كغرف نوم الأطفال، يسلكها اللاعبون في طريقهم نحو الموت، الذي سيفلت منه لاعب واحد من بين الـ 456 لاعبا، مرورا بغموض المساحات المظلمة حيث مكان التخلص من الجثث بحرقها...


استغل صانع المسلسل مفهومنا الخاص عن الألعاب ليمارس بعض الجرأة الفنية في اختيار الأقنعة اللامعة الباذخة لرجال الأعمال المحظوظين بمتابعة اللعبة عبر فرجة شخصية، لا إلكترونية، في استغلال للمكنون الهمجي في نفوس البشر، ذلك الذي يسوقهم إلى دفع مبالغ طائلة لدخول حلبات لا شيء فيها إلا إنسان يصرع إنسانا! مثلما استغل بعض المَشاهد الحادة المؤذية لجثث بعض اللاعبين، التي يتم تمزيقها واستخراج عيونها وقلوبها لبيعها، وربما كانت تلك اللقطات الفجة أكثر ما أزعجني في المسلسل، لأنني رأيت فيها دلالة صريحة، غير رامزة ولا فنية، لموقف نقدي من الحياة.

يبعث المسلسل برسالة حاسمة حول مدى إنسانية البشر، ومدى سعيهم لإرضاء غرائزهم مهما كان ثمن ذلك!


التعليقات (5)
إلياس
الخميس، 20-01-2022 06:45 م
لعب حلون
ريماس زارعي
الخميس، 21-10-2021 06:18 ص
واو لعبة بها مره واحده وكانت رائع جدا وليست مختلفة
muhammed
الإثنين، 11-10-2021 10:08 ص
لعبة اسطورية
Maxim
السبت، 09-10-2021 10:29 ص
المسلسل بعث برسالة قوية إلى العالم ومدى استعداد الانسان لارتكاب جرائم القتل لإرضاء طمعه للمال بغض النظر عن الشعور الإنساني. وكذلك هو ايضا حبيس افكار طوباوية مستعد لأجل ذلك أن يقتل (بفتح ياء).
نسيت إسمي
الثلاثاء، 05-10-2021 12:28 م
في «لعبة الحبار».. إنهم يقتلون البشر.. أليس كذلك؟! كثيرة هي الأعمال الفنية التي تدور حول لعبة قاتلة ينظمها الأثرياء الذين يشعرون بالملل ويشارك فيها الفقراء الذين يبحثون عن المال. من فيلم «إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟»، إخراج سيدني بولاك، 1969، المقتبس عن مسرحية هوراس ماكوي، المكتوبة في 1935، وصولاً إلى المسلسل الكوري "لعبة الحبار . في العامين الماضيين حقق الموسم الأول والثاني من مسلسل «اللعبة» المصري نجاحاً كبيراً، وقبله قدمت السينما المصرية الفكرة في أعمال منها «كابوريا» و«قشر البندق» للمخرج خيري بشارة. ويصعب أن يحصي المرء الأعمال الأجنبية والعربية التي عالجت الفكرة بأشكال مختلفة. عادة تدور حبكة هذه الأعمال حول لعبة، أو سلسلة من الألعاب الخطيرة، تبدأ بالهزر ثم تتحول إلى مأساة كاشفة عن الوضع الإنساني العام، حيث يتحول البشر إلى مقامرين ومجرمين من أجل الفوز بالجائزة الكبرى، وعادة ما تكون اللعبة في هذه الأعمال نوعاً من الاستعارة أو المعادل الموضوعي للحياة نفسها، أو إغراأت الحياة المتمثلة في المال والسلطة، أو النظام الرأسمالي، الذي يجبر الناس على التناحر والتسابق حتى الموت من أجل العثور على مكان تحت الشمس. وأحياناً يركز الفيلم على الجانب الاجتماعي للدراما، بينما يركز أحياناً على الجانب المرعب والدموي للتنافس، وأحياناً يخلو من الاثنين ويركز على الكوميديا للضحك فقط كما في مسلسل «اللعبة» المصري في «لعبة الحبار» يدمج وانج دونجء ويك بين الجانبين الاجتماعي والدموي، وهو دمج طالما ميز الأعمال الكورية السينمائية والتلفزيونية، وعلى سبيل المثال فقط يمكن ذكر فيلم «طفيلي» ومسلسل «سنوبيرسر» للمخرج والمؤلف بونج جوء هو. يدور «لعبة الحبار» حول عدة شخصيات رئيسية وبضع مئات من الشخصيات الثانوية (456 بالتحديد)، يعانون من تراكم الديون لأسباب مختلفة، يقبلون المشاركة في مسابقة غامضة من 6 مراحل يكتشفون عقب انتهاء المرحلة الأولى بأن من يخسر يتم قتله على الفور. كما يكتشفون أن الفائز النهائي سيحصل على مبلغ فلكي يصل إلى 45 مليار يوان (ما يقرب من 40 مليون دولار أمريكي)، ورغم رعبهم ورفضهم للاستمرار في اللعب، إلا أن معظمهم يعود لاستكمالها بعد أيام قليلة، عندما يكتشفون أن خطر وعنف الواقع في الخارج لا يختلف كثيراً عن اللعبة . الشخصيات الرئيسية التي يركز عليها المسلسل هي سيونج جيء هون (يؤدي دوره لي جونجء جي)، رجل متوسط العمر، مطلق ولديه ابنة، ويعيش مع أمه المريضة، مدمن مقامرة لديه ديون بالملايين، ومعرض للقتل من قبل العصابة التي أقرضته. الثاني هو شو سانجء وو (بارك هاء سو) صديق طفولة لسيونج، حاد الذكاء، متعلم، ولكنه يقع فريسة طموحه بعد أن يختلس مبالغ كبيرة من عملاء الشركة التي يعمل فيها ثم يخسرها في مشاريع فاشلة. الشخصية الثالثة هي النشالة الجميلة كانج سيء بيوك (هو يوينء يونج)، التي تسرق سيونج، ثم يتبين أنها مهاجرة فقيرة من كوريا الشمالية، كانت تعتقد أن كوريا الجنوبية جنة، ولكنها وقعت في مستنقع الديون والجريمة، وتحاول إنقاذ أخيها الأصغر المودع في إحدى المؤسسات الاجتماعية وإعادته إلى بلده. الشخصية الرابعة هي العجوز أو يي نام (أو يونجء سو)، الذي يعاني من ورم في المخ ومن الوحدة الشديدة ويشترك في المسابقة بحثاً عن بعض الإثارة والونس.الخامس هو الباكستاني المهاجر أبدول علي (أنوبام تريباثي) الذي جاء مع أسرته إلى كوريا للبحث عن حياة أفضل، ولكن لا يجدها ويضطر لدخول المسابقة لإنقاذ عائلته. بجانب هؤلاء يوجد عدد آخر من الشخصيات، أبرزها بلطجي مجرم مخادع، وامرأة صاحبة سوابق، وفتاة صغيرة تعاني من الوحدة والاكتئاب. يتكون المسلسل من 9 حلقات تحمل كل منها عنواناً، وتتكون المسابقة من 6 ألعاب مختلفة يتبين أن جميعها ألعاب أطفال شعبية شهيرة تم تعديلها لتصبح أكثر عنفاً ودموية.وبمرور الوقت تتكشف خطوط فرعية ومفاجآت درامية، ولكن الأهم هو قدرة العمل على تشريح النفس البشرية في أسوأ أحوالها (عندما يتعلق الأمر بالحرب من أجل المال وحياة المرء نفسها)، ورغم النغمة المتشائمة التي تسود المسلسل، إلا أن اللحظات الإنسانية والنبيلة لا تغيب تماماً، ولكنها تولد في ذروة الحرب والموت، مخلفة أثراً قوياً يخفف من قتامة وكآبة الأحداث، ويبث بعض الأمل في المشاهد."لعبة الحبار" يحقق للمشاهد متعتين نادرتين: تشويقاً وإثارة ولغة فنية خلابة، وأيضاً مضموناً جاداً يخلب العقل ويقلبه رأساً على عقب، ويجبر المشاهد على إعادة النظر في حياته (بقلم عصام زكريا).