هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كتب غسان روايته "رجال في الشمس" بشكل رمزي؛ خوفاً مِن المحاسبة السياسية لكل قلم حر مناصر للبؤساء، فأراد أنْ يبرز واقع اللجوء والتشرد المعاش الفلسطيني بعد النكبة من خلال شخصياته الرئيسة المترابطة مع أحداثه بشكل رصين.
فـ"أبو قيس" المعيل الذي فقد أرضه، هجر بلاده بحثاً عن لقمة العيش لجسد ضائع مشرد في اللجوء، و"مروان" الذي هجر بحثاً عن العمل لإعالة أسرته وسنده أمام عواصف الحياة، و"سعد" الذي هاجر رغبةً بالبحث عن الحرية وذاته النازفة دماً لفكره ووجوده، و"أبو خيزران" المخصي المُهرب للأشخاص على الحدود العراقية والكويتية. مِن هذه الشخصيات المضارعة لكل شخصية لاجئ في الوجود تشكلت وانطلقت الأحداث، فيصور الواقع المرير في بداية نكبة الأرض، ثم فقد الهوية، ثم بأرقام مسجلة في مدونات وكالة الأمم..
فما أصعب أن تصبح مجهول الهوية، شارداً متخبطاً بحثاً عن ذاتك وجسدك وروحك وإنسانيتك، تهرب بحثاً عن منفى يحتضنك، ولكن في النهاية برز الإشكال والسؤال عند كل قارئ، حيث ماتوا خنقاً بسبب عبث أصدقاء ومعارف أبي الخيزران، ونتيجة ظروف طبيعية لحرارة مشتعلة، وكأن الجو يُعاند قدرهم للأمل في الحياة، وبصره لمستقبل يحتضن ما تبقى مِن إنسانيتهم.
ولكن أبا خيزران بقي جامداً عالقاً في فكره متسائلاً: لماذا لم يدقوا الباب؟ حيث صدق القارئ أكذوبته في حكاية: لماذا لم يصرخوا ويطالبوا ويناشدوا بحقوقهم الشرعية في الصراخ على هذا الحر الخانق؟ لماذا لم يحاربوا بقواهم الروحية الجسدية للخلاص من الفناء للهوية؟ ولكنهم نسوا بأن هؤلاء صرخوا وناشدوا الحياة مرارا، فقد حاربوا منذ أزلهم عن الأرض، وعن الهوية حتى رمقهم الأخير، ولكن تواطأ الأعداء الذين يفوق كيانهم قوة وشراً، فوقع اللاجئ كبش فداء، عصفورا ذبيحا بين أشلاء بحيرة دماء من أهل وأصدقاء وأحباب. لكن قد جهل سمع أبي خيزران صراخهم من أجل مناشدة الحياة، وبقي ساذجاً: لماذا لم يدقوا الباب ويناشدوا الحياة؟
والأدهى من ذلك وقوف القارئ وكثير من النقاد بسذاجة على هذه المقولة، فلم يعلموا برسالة الرواية، حيث صورت اللجوء وأسبابه وما حل بعده، وكيف طالب اللاجئون بحقوقهم، بوسائلهم وبشتى قواهم، ولكن بقي أبو خيزران والعالم بأسره يجمد فكره ويتجاهل الصراخ الداخلي والخارجي غير المسموع لآذانهم، وتم الوقوف على قشور اللفظ: لماذا لم يدقوا الباب؟
فغسان الكاتب اللاجئ نجح في رصده للواقع ونقده، يريد القول إن النكبة قيامة جهنمية على الأرض، ولكن الأدهى هو المكوث في نار التشرد واللجوء، وكأنها نبوءة من كاتب سياسي لاذع، فقد تلا النكبة سلخ للهوية والجذور والتراب والجسد والروح والإنسانية. وما زلنا نُكوى ونتلظى في حطب قيامة نكبة جهنم.
ولكن لم تصل رسالته؛ لسذاجة أو لتغافل القارئ عن المضمون والرمز، والبقاء عالقين على اللفظ وشخصية الخيزران المخصي من الهوية، حيث تساءل عن مطالبتهم بالحياة ومطالبتهم بإنشاد صراخ شرعي لوجودهم وهويتهم.
وهنا تظهر وتتجلى نقطة التساؤل: كيف لإنسان مخصي يفقد هويته الجنسية، يتساءل عن مطالبتهم وإنشاد الحياة والدفاع عن الهوية؟ فكأنّها نبوءة من الكاتب الفذ وبصيرته لما سيحل للواقع الفلسطيني المعاش بعد زمن، حيث تساءل العالم المخصي من الإنسانية والعدل بأسره سؤال الخيزران المخصي من الهوية والعقل: لماذا لم يطالبوا ويناشدوا بحقهم إن كان شرعيا؟ فنسوا ما ناشدنا به ونحن مجرد عصافير هشة أمام ثعالب ومخالب حيوانية تحفر السموم وتزيل الغرس؛ لتلقح بذور غير البذور الحقيقية!
* كاتبة من فلسطين