(1)
في يوم ١٧ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢١م، أعلن المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة في إغلاق الشرق (ثلاث ولايات سودانية: البحر الأحمر وكسلا والقضارف) وتضامن منبر البطانة الحر مع موقف البجا وطرح قضايا مناطقية، وتمدد الإغلاق الذي تعاملت معه وسائل الإعلام المحلية والعربية ببرود، مع تأثير الحدث وحجمه..
ويمكن النظر للحدث من أربع زوايا مهمة:
أولا: هناك قضية معلومة ومعروفة للشرق، وبغض النظر عن الموقف منها، فإنها محل نقاش وتداول، وأبرز بنودها إلغاء مسار الشرق الذي أقرته إتفاقية جوبا في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٩م، واعتماد توصيات مؤتمر سنكات ٢٠٢٠م.. مع تراكمات سياسية واجتماعية..
وثانياً: حجم الفعل، وهو إغلاق ثلاث ولايات تحادد خمس ولايات أخرى، وعدد سكان المنطقة يتجاوز ستة ملايين نسمة، وفيها مؤانئ
السودان البحرية كافة، ودون أن نقلل من التفاعل والالتفاف الشعبي الذي حظي به الحدث وخاصة في ولاية البحر الأحمر.. وهو أمر يتطلب أن يكون على أجندة وأولويات السلطة السياسية..
وثالثاً: إن هذه المنطقة (أي القرن الأفريقي) شديدة الحساسية للأمن الإقليمي، والدولي، ومنطقة تقاطعات لا تحتمل المغامرات غير المحسوبة، بل تعتبر محل مخططات مؤثرة ونقطة صراع أجندات دولية..
ورابعاً: إن إسلوب التتريس والإغلاق جزء من ممارسة ضغوط وأدوات استخدمتها ذات الحاضنة السياسية الحاكمة، وفي ٢٢ آذار/ مارس ٢٠١٩م أطلقت دعوة لإقفال وتتريس الطرق القومية..
كما أن الإغلاق من أجل مطالب سياسية أقل خطراً من حمل السلاح ضد الدولة والوطن، وقد فاوضت الحكومة حَمَلة السلاح وما زالت، ومن باب أولى أن تتحدث مع الاحتجاج السلمي..
مع أنني على المستوى الشخصي لا أدعم أي خيار إغلاق أو تتريس، ناهيك عن تمرد على سلطان الدولة والحكومة، ولكن حين يضيق الأفق السياسي ويغيب منطق الحوار، تلجأ الأطراف لاستخدام كروت الضغط وقد كانت غالية الثمن..
(2)
هناك حيثيات تشير إلى أن ما يجري الآن، أو بالأحرى التعامل مع الحدث، يشي بخبايا مثيرة للقلق وتطرح أسئلة عن جدية الحكومة في معالجة هذه الأزمة، وأحداث أخرى، ونوجز ذلك في نقاط:
- لقد اتسم تعامل الحكومة مع الإغلاق بالبرود، ونعني هنا مجلس السيادة الانتقالي ورئيسه الفريق أول عبدالفتاح البرهان والحكومة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك والحاضنة السياسية، فهم من وقعوا اتفاق السلام في جوبا واعتمدوا مسار الشرق مع الرفض الشعبي القاطع وعجزوا عن إقناع القاعدة الشعبية، وهم من تلكأوا في إدارة حوار موضوعي وبناء وصولاً لحلول أو تقديماً لرؤية وتصور.. واكتفوا بتبريرات وتلويح باستخدام القوة ونحو ذلك، وهي أساليب معالجة سطحية وذات مردود عكسي..
- كما أن ما جرى في الشرق لا تمكن قراءته بمعزل عما جرى في دارفور، حيث أعلن قبل يومين حاكم الإقليم مني أركو مناوي عزمه "على تجاوز الخرطوم في مجال الترتيبات الأمنية"، ولا تمكن قراءته بمعزل عن الفوضى والتسيب الأمني في وسط الخرطوم وشيوع الجريمة والسلب والنهب، ولا تمكن قراءته بمعزل عن تنامي البعد الجهوي للمطالبة بالحقوق. كل ذلك يشكل إضعافاً للسلطة المركزية ونزع هيبة القانون، وتفتيت القضايا الجامعة والناظمة لوحدة الوطن.. فهل أصبحت وحدة البلاد محل تجاذبات سياسية؟
(3)
في واحدة تصريحاته، قال سيد محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة: "نحن أمام خيارين؛ إما أن نكون دولة موحدة ويأخذ كل ذي حق حقه، وإلا أن نقسم إلى دويلات"..
لقد شهدت هذه المرحلة تنازعاً سياسياً، وغيابا الرؤية الاستراتيجية، وهذه بيئة قابلة لتمرير أجندة كثيرة، ذات ارتباط خارجي أو تطلعات سياسية، وللأسف فإنها تعتمد خيارات "التفتيت"، وبدأ ذلك بالمؤسسات القومية والكبري والتشكيك في الأجهزة الأمنية، وحتى القوى والتيارات السياسية، وسبق ذلك إضعاف القوة الاقتصادية للسودان؛ من حصار اقتصادي امتد ٢٧ عاماً.. فهل وصلنا مرحلة الخيار الصفري، أي تقسيم الوطن؟..
هذا الخطر الماثل يقتضي نظرة أوسع من صراع المواقف القصيرة، وهو تحد قائم وحاضر بقوة، والله المستعان.