هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كنتُ في الرابعة عشرة من عمري حين شاهدتُ هذه الحلقةَ مُعادةً من برنامج (العلم والإيمان)، ثمّ أحالَني كتابٌ لا أذكُرُ اسمَه للمرحوم الدكتور مصطفى محمود مباشَرةً إلى كتاب الدكتور نديم السّيّار (قدماء المصريين أول الموحِّدِين).
وعثرتُ على الكتاب بعد ذلك بأشهرٍ وقرأتُه،
وكنت متحمسًا لأفكاره الأساسيّة، أردِّدها حيثما تسنّى لي. لكن بقي هناكَ ما
يَحيكُ في صدري وأخشى أن يطّلعَ عليه الناس! أعني عدمَ ارتياحي لاستشهاد المؤلّف
على صحة دعاواه بأقوال بعض المُصنِّفين من أصحاب التفاسير والمؤرّخين، فهو مثلاً
يستشهد على مصرية نبي الله إدريس بما قالَه القِفطيّ والألوسيّ وابنُ أبي
أُصَيبِعة وابنُ جُلجُل وغيرُ هؤلاء. لكن كيف عرفَ هؤلاء ذلك؟! أين أجدُ حديثًا
متواترًا عن النبيّ مثَلاً في مصرية إدريس؟ أين أجِد ذكرًا تاريخيًّا واضحًا لا
لبس فيه لإدريس المذكور في القرآن؟! هؤلاء المصنِّفون نقلَ بعضُهم عن بعضٍ واعتبر
لاحقُهم أنّ سابقَهم حُجّةٌ، فردّد مزاعِمَه دون تفنيد. وقد رفضَ ابنُ كثيرٍ
مثَلاً معظمَ ما حكاه سابقوه عن إدريس واعتبرَه اختلاقاتٍ وإسرائيليّاتٍ كما أوضح
هذا المقال.
فإذا ما تركنا النبيَّ إدريس جانبًا، وأخذنا
فكرةً أخرى مؤسِّسةً في كتاب السيّار، هي فكرة تواتُر ترجمة الكلمة المصرية
القديمة (نِتِر) خطأً إلى (إله)، بينما حقُّها أن تُتَرجَم إلى (المنتسِب إلى
العرش)، فسنجد أنّ ركنًا مهمًّا من الدعوى يبدو أنه صحيحٌ، وهو معنى المَقطع (نِـ)
الذي يعني بالعربية "المنتسِب إلى" أو ما يحُلّ محَلّ حرف الجرّ Of بالإنكليزية. لكن إذا افترَضنا صحّة الترجمة
التي يقترحُها المؤلّف بالكامل، كيف لنا أن نجزم بأنّ "المنتسِب إلى
العرش" يعني مَلَكًا أو مخلوقًا عُلويًّا دُون الإله، ولا يعني
"إلهًا" على سبيل القَطع؟! أعني أنّنا نقول بالإنكليزية أحيانًا Victoria of Britain فنقصد فكتوريا ملكة
بريطانيا في القرن التاسع عشر، لا واحدةً من حاشية الملِكة أو خدَم العرش. أمّا
محض التركب اللغويّ المكوّن من كلمتَين إحداهما (العرش) فلا يوجد في القرآن مثَلاً
إلا للإشارة إلى الله، كما في سورة البُروج: "إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ ﴿13﴾ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿14﴾ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ
﴿15﴾". ورغم اختلاف مدلول (ذِي) عن مدلول نون النسب في (نِتِر) إلاّ أنّ
الآيات قد تمثّل شاهدًا على صعوبة القطع بالمدلول الذي ذهب إليه أستاذنا
(السيّار).
* آتوم وپتاح بين عين شمس ومنف:
تبعًا لكثيرٍ من الكتب التي تناولت عقائد قدماء
المصريين، وبينها (المعتقدات الدينية لدى الشعوب) الذي عرّبه د. إمام عبد الفتّاح
عن كتاب World Religions by Geoffrey Parrinder،
فإنّ الصدارة في أي مَجمع للآلهة تكون لآلهة الخلق، وفي الحالة المصرية كان الحال
كذلك رغم وجود أساطير متنوعة عن الخلق، بَيدَ أن أوسعها انتشارًا كانت أسطورة
مدينة (أون) وهي التي سمِّيت في العصر اليوناني الروماني Heliopolis ثم سماها العربُ (عَينَ شَمس). وتتمحور هذه النسخة من قصّة الخلق حول الإله الأول
(أتوم) الذي خَرجَ من عَماء المياه الأولى (نُون) ثمّ ظهر فوق تَلّ، وأنجبَ بغَير
زواجٍ إلهَ الهواء (شُو) وإلهةَ الماء (تفنوت)، ثم فصَلَ (شُو) بين إله الأرض
(جِب) وإلهة السماء (نُوت)، وأنجب هذان الأخيران (إِزِت/ إيزيس) و(أوزير) و(سِت)
و(نِفتيس)، ويمثل هؤلاء جميعًا في دراسات لاهوت مصر القديمة ما يسمى بتاسوع
هليوپوليس The Great Ennead.
وتقول متون الأهرام (المتن رقم 1587 ب) إنّ اسمَ (آتوم) يعني الواحد الكامل أو
الإله الأَتَمّ، وإنه أوجدَ نفسَه بنفسِه.
ولا يَعدَم المنتمي للثقافة الإسلامية بعض
التراسُل بين هذه العقيدة من ناحيةٍ وإشارات بعض آيات القرآن من ناحيةٍ أخرى، ففي
الآية السابعة من سورة (هُود): "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"، فهنا إشارةٌ إلى ماءٍ أوّل قبل خلق السماء
والأرض، فضلاً عن العرش في مقابل التلّ المصري القديم.
لكنّ القِدَم المُطلَق والوحدانية الأولى
والكمال الإلهيّ لم يُنسَب عند قدماء المصريين إلى أتوم فقط، فقد نُسِب في ممفيس/
منف إلى (پتاح Ptah).
ونلاحظ أنّ تعاليم منف الكهنوتية التي تعود إلى الدولة القديمة - أي أنها لا تقلّ
قِدَمًا عن متون الأهرام على الأقلّ – تقول إنّ (پتاح) خلق العالَم بكلمة، كما
تبدأ بقولها إنّ پتاح خلق من نفسه أربعة أزواج من الآلهة سُمِّيت باسم (پتاح) ثم
أطلقَ عليها البشر أسماءً أخرى، وهذه الأزواج هي (نون ونونِت) المرتبطان بمياه
العَماء، و(حُح وحُحِت) المرتبطان باللانهاية، و(آمون وآمونِت) المرتبطان
بالخَفاء، و(كوك وكوكِت) المرتبطان بالظّلام. والمدهش أنّ رواق معبودات المصريين
القدماء ظلّ متّسِعًا لكلٍّ من أتوم وپتاح.
* صعودُ رع وآمون:
توحّد أتوم مع (رع) إله الشمس خلال الدولة
القديمة (2780 – 2200 ق.م)، وظلّت هذه الوحدة بين الإلهين في عصر الدولة الوسطى
(2065-1775 ق.م)، ومازالَت قائمةً في عين شمس أطلالُ مَعبدِ رع-أتوم الذي بناه
سنوسرت الأول من الدولة الوسطى. هذا فضلاً عن توحُّده مع (خِپْرِي Khepri)، وهو وجهٌ آخر لإله
الشمس كان يُرمز له بالجعران، وكانت الوجوه الثلاثة ترمُز إلى الشمس خلال رحلتها
اليومية.
أمّا آمون (الخفيّ) الذي كان أحد المعبودات
الثّمانية الصادرة عن پتاح – والتي بقيَ لنا منها إلى الآن اسمُ مدينة الأشمونين
بمحافظة المنيا، المشتقّ من لفظة (خِمِنُو) المصرية التي تعني (ثمانية) – فقد صعد
إلى سُدّة عرش كبير الآلهة في عصر الدولة الوسطى واستمرّ إلى الحديثة (1571 – 1069
ق.م)، وتوحَّد مع (رع) في مركّبٍ لاهوتيٍّ مميِّزٍ لذلك العصر.
وبين تاسوع أون وثامون الأشمونين وصعود رع
وآمون تكوَّنَت مجامع مصغّرة من الآلهة أو الكائنات العلوية، فآتوم امتزج مع الصقر
(حُور/ حورس) ابن أوزير وإيزيس، وفي منف ظهر ثالوث پتاح وزوجتِه سخمِت (اللبُؤة)
وطفلهما نفرتُم (الزهرة)، وفي طيبة ظهر ثالوثُ آمون ومُوت (ربّة السماء) وطفلهما
(خنسو) ربّ القمَر، وغير ذلك كثير.
* قَولان في المسافة بين التعدد والتوحيد:
يَلُوح لي أنّ هناك طريقتَين أساسيتَين للنظر
إلى هذه المسافة. إحداهما تعتبر التعدّد أسبَق، وأنه موافقٌ لبدائية العقل البشري،
ثُمّ ظهر التوحيد من رحِم التعدُّد تلبيةً لعددٍ من الاحتياجات البشرية، فهو من
ناحيةٍ يمثّل تطورًا في النظر العقلي إلى تناسُق الكون، ومن ناحيةٍ يلبّي مطلبًا
سياسيًّا لتوحيد البلاد الخاضعة لنظام حُكمٍ مركزيّ. أما الطريقة الأخرى فتعتبر
التوحيد فِطرةً إنسانيّةً، وما التعدُّد تبعًا لهذه النظرة إلا انحرافٌ يتسلل إلى
علاقة المجموعات البشرية بخالقِها وبالعالَم. ويبدو أنّ هذه النظرة الثانية أكثرُ
توافُقًا مع مرويّات الديانات الإبراهيمية، فقد كانت علاقة آدم أبي البشَر بخالقِه
مباشِرةً حسَبَ العهد القديم والقرآن، وكان الإنسان الأول موحِّدًا، ثم ظهرَت
المنظومات الشِّركيّة في كلّ اجتماعٍ بشريٍّ، فأُرسِلَت الرسُل للعودة بالمجتمعات
إلى التوحيد الأوّل.
في الفصل السادس (الإشراك والتوحيد) من كتابه
(آلهة مصر Les Dieux de L'Egypte)
الذي عرَّبَه زكي سوس، يسوقُ لنا (فرانسوا دوما Francois
Dumas) ملاحظةً مهمةً عن النصوص المرتبطة بالآلهة
المحلّيين في مدن مصر القديمة، فكلٌّ منها يُطلِق على الإله المحلّيّ صفةَ (الأوحد/
ور Wr)، ما يتجاوب مع رأي
الآثاريّ الألمانيّ (هرمان يُنكَر Hermann Junker)
الوارد في كتاب پارندر، حيث يرى (يُنكَر) أن الوحدانية البدائية قد ظهرت في ديانة
مصر القديمة، مُحتَجًّا بصِفة (الأوحد) المُشار إليها.
كذلك يُورِد (دوما) رأيًا للآثاريّ الفرنسيّ
إتيان دريوتون Etienne Drioton (1889-1961) بخصوص الوصايا الخُلُقية الموروثة عن قدماء المصريين، حيث يلاحِظ أنها
لم تَذكُر أبدًا جماعةَ الآلهة، وإنما تحدثَت دائمًا عن (الإله) بصيغة الواحد،
ورَدّ الألماني (هرمان كِاس Hermann Kees 1886-1964)
بأنّ المقصود بالإله في تلك النصوص هو الملِك. أمّا (غاستون ماسپيرو 1846 – 1916)
فكان يقول: "إنّ مصر عرفَت عددًا من الآلهة التي كان يُطلَق على كُلّ فردٍ
منها (أوحَد)، يُوازي ما كان لديها من مدُنٍ عظيمة!"
عَودًا إلى كتاب پارندر، نجدُه يُورِد رأيًا
إيجابيًّا للآثاريّ المُستشرِق الهولنديّ (هنري فرانكفورت Henri
Frankfort 1897 – 1954) بخصوص معالِم الخلط
والتناقُض الموجودة في تصورات المصريين القدماء لعملية الخَلق وفي معتقداتِهم
الجنائزية ولاهوتهم، فهو يرى ذلك إثراءً ودعمًا لمتطلباتهم الرُّوحيّة، ويعتقد أنه
يتضمّن "الاستمتاعَ بتعدُّد السبُل". لكنّ پارندر يرُدّ: "لكنّ
السببَ من الناحية التاريخية لهذا المَجمَع الهائلِ هو المزج بين عددٍ كبيرٍ من
العبادات والتقاليد المحلّيّة المأثورة."
* رأيٌ شخصيّ في الخاتمة:
من المؤكّد أنّ مقالاً قصيرًا كهذا لا يسعى إلى
عرض ديانة المصريين القدماء، ولا حتى في عُجالة، ولا يطمحُ إلى حِجاج أستاذنا
الدكتور السّيّار بطريقةٍ مفصَّلَة. لقد اجتهدَ الرجُل، لا شَكّ في ذلك. لكنّه
فيما يبدو لي تجاهلَ في غمرة حماسِه كُلّ المُعطَيات التي قد تقفُ عائقًا أمام
تصوُّرِه لديانة القدماء باعتبارِها توحيدًا إدريسيًّا حنيفيّا.
الأقرب إلى تصوُّري أنّ الرأيَين الوارِدَين في
الفقرة السابقةِ لفرانكفورت وپارندر يمثّلان وجهَين لعملةٍ واحدةٍ اسمُها التمدُّد
الحضاريّ. لقد نشأت القُرى والمُدُن على ضفاف النِّيل قبل التاريخ المكتوب، ومن
الضروريّ أنّ الحاجات الرُّوحيّة المُلِحّةَ قد خلقَت للمصريين أديانًا وعِباداتٍ
طوطميّةً وغيرَ طوطميّةٍ في تلك الفترة. ثُمّ تجمّعت تلك القرى والمُدن في
الأقاليم الاثنين والأربعين المعروفة، فكان لابُدّ أن تندغم العبادات المُغرقة في
المحَلّيّة في نُسَخٍ من اللاهوت أكثر تنظيمًا، تليق بتلك الوحدات الجغرافية
السياسية الأكبر. ثُمّ نشأت مملكتا الشّمال والجنوب، ثم وحَد ملوكُ الشّمال
القُطرَين كما نعرفُ في دولةٍ لم يُكتَب لها أن تُعمّر طويلاً، عاصمتُها (أون/
هليوپوليس/ عين شمس) قُربَ ختام الألف الخامسة قبل الميلاد، ثم نجحَ مينا/ نَعَرمر
في فرض الوحدة طويلة الأجل بعد ذلك بألف عامٍ ليبدأَ عصرُ الأُسرات كما دوَّنَه
مانيتونُ المصريّ في العهد البطلميّ. خلالَ ذلك جرى مزيدٌ من الاندغام ونشط كهنةُ
العواصم والأطراف في توفيق تلك العبادات في منظومةٍ تحافظُ على المعبودات
المحلّيّة إرضاءً لعُبّادِها في الأقاليم، وتُفرِدُ مكانًا لإله واحدٍ مُتعالٍ
قائمٍ في قلب التعدُّد، هو أتوم أو پتاح أو رع أو آمون أو مزيجٌ من بعضها.
والعلاقة بين التوحيد والتعدُّد هي عين العلاقة بين الدِّين الخالص من ناحيةٍ
ومتطلّبات الحضارة من ناحيةٍ أخرى. إنها الحضارة التي لا تَقنَع بمَسلَكٍ واحدٍ
صارمٍ مفروضٍ على الجميع، وتَجِد في تعدُّد كُلّ شيءٍ تجلّيًا للوَفرَة التي هي
لازمةٌ من لوازمها وغايةٌ لمَساعيها.
أمّا أن نقفز على المُعطَيات التي تزوّدنا بها
وثائق التاريخ لنفترضَ في أسلافِنا توحيدًا صارمًا كما في الديانات الإبراهيمية،
ففي ذلك مجازفةٌ معرفيّةٌ تتجاهلُ ما نراهُ حولنا حتى في أنفُسِنا. لقد أثنى (وِل
ديورانت) في الجزء الخاصّ بالهند من موسوعته (قصّة الحضارة) على الإسلام، واصفًا
إيّاه بالرُّجولة، وكان يَعني أنه دِينٌ بقيَ في تعاليمِه الأساسيّة نقيًّا من
التأثُّر بجيرانِه. ورغمَ انتماء كاتب هذا المَقال إلى الإسلام، فإنني أرى بوضوحٍ
أنّ تلك الرُّجولةَ تصِفُ الجزءَ المركزيّ جِدًّا من الإسلام، وهو القرآن نصُّه
المقدَّس، لكن بماذا عسانا نفسّر خروجَ ديانةٍ في الشرق كالسيخ من امتزاج
التأثيرَين الإسلامي والهندوسيّ، وديانةٍ في الغرب كالدُّرزيّة، تُجاورُ تعاليمَ الإسلامِ
فيها تأثيراتٌ من فيثاغورس؟! إنّ المأثورَ النبويّ نفسَه يتنبّأ بمراحلَ من
الاضمحلال في مسيرة الإسلام، ويتنبّأ بتقليد المُسلِمين لأصحاب الديانات الأخرى،
وهو ما نراه حولَنا في دينٍ يتجاوز الأعوام الألف والأربعمائة بعُقودٍ قليلة، فكيف
بديانة/ ديانات المصرين القدماء التي بقيَت نشطةً في المعابد وقُلوب الأتباع لما
يربو على أربعة آلاف عام؟! إذا افترضنا أنها الإدريسية الحنيفية، فهل ظلَّت كذلك
من منشئها إلى دخول المسيحيةِ مصر؟!
يبدو لي الموقفُ الأَسلَم إزاء هذا السؤال
مُلَخَّصًا في آيتَين من سورة (طه) تصِفان حوارَ موسى وفرعون:
"قَالَ فَما بَالُ القُرُونِ الأُولَى
(51) قالَ عِلمُها عِندَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى
(52)".