بعد اجتياح لبنان وحصار بيروت عام ١٩٨٢، والذي انتهى إلى ترحيل الفصائل
الفلسطينية إلى تونس، أحكمت قوات
الاحتلال قبضتها على أراضي الضفة الغربية والقدس، وعاش سكانهما سنواتٍ عجافٍ من التضييق والاضطهاد تحت حكمٍ عسكريٍ هو الأشد قسوة عبر التاريخ، والذي جثم على صدور الفلسطينيين بطريقة لم يعد يسعهم احتمالها.
في عام ١٩٨٦ حذر وزير خارجية الاحتلال الأسبق أبا إيبان، وقبل سنة من اندلاع الانتفاضه الأولى، من أن "الفلسطينيين يعيشون محرومين من حق التصويت أو من حق اختيار من يمثلهم. ليس لديهم أي سلطة على الحكومة التي تتحكم في أوضاعهم المعيشية، إنهم يتعرضون لضغوط وعقوبات ما كان لهم أن يتعرضوا لها لو كانوا يهودا (..)". وأضاف: "إن هذه الحالة لن تستمر دون أن يؤدي ذلك إلى الانفجار".
إلا أن صاحب سياسة القبضة الحديدية في حينها، وزير الأمن الداخلي إسحاق رابين، لم يستمع، مؤمناً بقدرته على قمع أي احتجاجات فلسطينية عبر استخدام قوة مفرطة لا تتناسب والاحتجاجات. فبقي على قراره إلى أن إانفجر كل شيء في وجهه وقامت انتفاضة شاملة عمت كافة الأراضي الفلسطينية، قوامها الشباب والأطفال، مسلحين بالحجارة التي كانوا يلقون بها على مجنزرات وناقلات الجند الخاصة بالجيش؛ الذين تربوا على أنه "لا يقهر".
قابل رابين ورئيس جهاز الشاباك الاحتجاجات بقبضة من حديد على أمل إخضاعها وإطفاء شرارة الانتفاضة، فقامت قوات الاحتلال على طريقة الهاجاناه؛ باستخدام مفرط للقوة من غازات ورصاص مطاطي ورصاص حي، واعتقلت واغتالت الآلاف، وهدمت البيوت وجرفت آلاف الدونمات، وارتكبت كل ما يمكن تخيله من
جرائم ضد الإنسانية وانتهكت كل ما أمكن لها من حقوق الإنسان.
وبعد أن امتلأت السجون عن آخرها، وطالت الانتفاضة وارتفعت كلفتها، انتهج وزير الأمن الداخلي وقتها طرقا إجرامية لترهيب الفلسطينيين بأبخس الطرق، ووجه قوات الاحتلال إلى انتهاج طريقة تكسير عظام كل من يرمي عليهم حجرا ثم يقع تحت أيديهم المجرمة، فكانوا يأخذونه إلى سفح جبل ويقومون
بتكسير عظامه ومفاصله بالحجارة والصخور، بدون ممانعة لو تم تصوير المشهد الذي يندى له الجبين، لتوجيه رسالة وحشية لكل من تسول له نفسه أن يصرخ من أجل حقه وأرضه ويشارك بالانتفاضة.
المقاطع التي خرجت للعالم وقتها كانت ربما من أكثر المشاهد مفارقة عبر التاريخ. طبعت تلك المشاهد سنوات المراهقة بأسى أبى طوال عقود مغادرة وجداني وغيري من أبناء هذا الجيل، لكن وفي نفس الوقت، ظهر الوجه القبيح الحقيقي للاحتلال المجرم المقيت للعالم، ما أثار - ربما - أكبر موجات التعاطف عالمياً، وزاد عدد الناشطين في الغرب للضغط على حكوماتهم، لتدرك وقتها بأن هذا الصراع فيه اختلال لتوازن القوى، وظلم بيّن سيبقى كالنار تحت الرماد في حال لم تتم معالجته.
وبدأ العالم إبان حرب الخليج السعي بشكل حثيث للدفع إلى مفاوضات
السلام التي نتج عنها في نهاية الأمر اتفاقيتا أوسلو ووادي عربة، في خطوة على أمل الوصول يوماً إلى سلامٍ عادلٍ وشامل يطفئ نيران صراعات المنطقة.
إلا أن ذلك السلام لم يتحقق حتى بعد كل هذه العقود، وبقي الظلم البيّن، وبقي الاحتلال جاثما بقذارة، وبقي مقت وكره هذا الاحتلال بل تنامى أكثر يوماً بعد يوم.
كما بقيت أيضاً قابعة في قاع النفوس تلك الصور والمشاهد التي ربما حفرت في الوجدان إلى الأبد، بقيت لتلقي صبغة حزنٍ بشكل نمطي ربما على جيلٍ كامل تربى على تلك المشاهد بشكل يومي. أخلت تلك المشاهد بصور العدالة والظلم في منظومة قيم ذلك الجيل، كما وطنت ذلك الإحباط الذي سرعان ما تحول الى اكتئاب مظلم صبغ الوجدان بلونٍ داكنٍ لم تفلح السنون بمحوه أو حتى التأقلم معه. وكلما مر الوقت، بتنا ندرك أكثر وأكثر أنه لطالما بقي المجرم طليقاً، والضحية حبيس سجن سوداوية مظلوميته.. بل ووصلنا إلى درجة اليقين المطلق بأن ذلك الاكتئاب الأسود ربما لن يرحل عن النفس أبدا.
https://www.facebook.com/QudsNen/videos/669190447055180
twitter.com/malzawawi