نشرت بوابة الأهرام
المصرية الأسبوع الماضي نقلا عن وكالة رويترز؛ تصريحات وزير المالية المصري محمد معيط بأن مصر تتوقع أن يكون دينها المحلي مؤهلا للمقاصة الأوروبية ومفتوحا أمام عدد أكبر من المستثمرين الأجانب بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
وقد جاء هذا التصريح الغامض والمقتضب لوزير المالية ليطرح المزيد عن مستقبل الدين العام المصري، سواء كان محليا أو خارجيا، لا سيما في ظل تعديل قانون الإيداع والقيد المركزي في العام الماضي بالسماح للبنك المركزي المصري بأن يباشر، من خلال شركة مساهمة مملوكة له بالكامل أو بالمشاركة مع الغير، نشاطي الإيداع والقيد المركزي بالنسبة للأدوات والأوراق المالية الحكومية.
وقد ذكر القانون أن تأسيس الشركة يتم وفقا للأحكام الخاصة بالشركات العاملة في مجال الأوراق المالية المنصوص عليها في قانون سوق رأس المال المصري، وأن مجلس إدارة هيئة الرقابة المالية يصدر القواعد المنظمة لإيداع وقيد الأدوات والأوراق المالية الحكومية وتسوية المراكز المالية الناشئة عن تداولها، بما في ذلك الحالات التي يتم فيها إنشاء صندوق لضمان الوفاء بالالتزامات الناشئة عن العمليات التي تقوم بها الشركة والقواعد المنظمة له، وذلك كله بعد أخذ رأي البنك المركزي المصري ووزارة المالية.
كما أكد القانون على أن تكون أسهم شركة الإيداع والقيد المركزي للأوراق المالية مملوكة لبورصات الأوراق المالية المصرية ولأعضاء الإيداع المركزي، وسمح لجهات الإيداع المركزي الأجنبية بأن تتمتع بصفة العضوية دون أن تلتزم بالمساهمة في الشركة.
كما أن مصر وقعت في العام 2019 اتفاقا للربط عبر الحدود مع يورو-كلير، أكبر دور المقاصة الأوروبية لتسوية معاملات الأوراق المالية، وإدراج
الديون المصرية للتداول عبر هذه المنصة.
السياسة التي تتبعها الحكومة تحت ذريعة تخفيض تكلفة الدين المحلي هي حلقة من الحلقات الخبيثة لسلسة الديون التي أدمنتها الحكومة وورطت فيها مصر وأجيالها وأصولها
وهذه السياسة التي تتبعها الحكومة تحت ذريعة تخفيض تكلفة الدين المحلي هي حلقة من الحلقات الخبيثة لسلسة الديون التي أدمنتها الحكومة وورطت فيها مصر وأجيالها وأصولها، فلم تكتف بالدين الخارجي وتبعاته من المساس بسياسة الدول الأجنبية المقرضة للسيادة المصرية، بل اتجهت نحو فتح الباب للأجانب على مصراعيه للاستثمار في الدين المحلي، من أذون وسندات خزانة، وتوفير لهم ذلك من خلال أسواق المال الأوروبية وإجراء المقاصة في ما يتعلق بتداول تلك الديون من خلال يورو-كلير، لا سيما وأن الحكومة أخذت خطوات وطرحت أذون خزانة بالدولار الأمريكي جنبا إلى جنب مع الجنيه المصري.
إن خطورة الدين المحلي إذا تم تدويله تبدو من كونه دينا في جلّه لسد عجز الموازنة العامة للدولة، ولا ينبني عليه في حقيقة الواقع المؤلم تنمية حقيقية، ومن ثم لن يكون فتح هذا الباب إلا مزيدا من الديون، فضلا عن ترقيع الدين القائم وفتح باب المنافسة في ذلك بين المصريين والأجانب، لتقع تلك الديون في نهاية المطاف تحت سيطرة الأجانب. إضافة إلى ذلك فإنه قد يتم تسنيد أو توريق ما يمكن من القروض الخاصة بالدين المحلي بل والدين الخارجي، لتصبح ديون مصر خالصة في يد الأجانب، ونعود بالذاكرة إلى عهد الخديوي إسماعيل والوبال الذي حققه على مصر نتيجة للديون التي أصبحت هدفا له كما هي في مصر الآن.
خطورة الدين المحلي إذا تم تدويله تبدو من كونه دينا في جلّه لسد عجز الموازنة العامة للدولة، ولا ينبني عليه في حقيقة الواقع المؤلم تنمية حقيقية، ومن ثم لن يكون فتح هذا الباب إلا مزيدا من الديون، فضلا عن ترقيع الدين القائم وفتح باب المنافسة في ذلك بين المصريين والأجانب
فقد بدأ التدخل الأجنبي في مصر بقبول الخديوي إسماعيل تحت وطأة الديون أن يضع تحت يد الخبير البريطاني كيف في عام 1875م؛ ما يريد جمعه من معلومات عن إيرادات مصر ومصروفاتها، ثم اضطر إسماعيل في العام 1876 إلى قبول إنشاء صندوق الدين المكون من مراقبين أوروبيين يمثلون أهم الدول الدائنة، تكون مهمتهم تسليم وتوزيع ما تضعه الحكومة تحت تصرفهم من إيرادات بغرض تسديد الديون، وإلى أن يقبل في نفس السنة شروط التسوية التي فرضها ممثلا الدائنين (جوشين الإنجليزي وجوبير الفرنسي) بإعادة جدولة الديون في ما يشبه الآن نادي باريس. ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل تم تكوين لجنة التحقيق عام 1878م، والتي تشبه توصياتها ما يقوم به صندوق النقد الدولي حاليا تحت اسم إصلاح المسار الاقتصادي.
وقد انتهى الأمر بسعي الحكومتين البريطانية والفرنسية لدى الباب العالي لعزل الخديوي إسماعيل، وهو ما تم بالفعل في 26 حزيران/ يونيو 1879م. ولم ينته أثر الدين عند ذلك، بل ساهم في الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م باسم حماية حقوق الدائنين الأوروبيين.
ثم شهد العام 1943م إقرار قانون تمصير الدين المصري بتحويل الدين الخارجي إلى دين داخلي، من خلال
سندات تطرح للاكتتاب العام للمصريين والأجانب المقيمين في مصر. وقد انتُقد هذا القانون لأنه يعمل على انتقال الدين من أيدي الأجانب المقيمين في أوروبا إلى الأجانب المقيمين في مصر.. فكيف الحال الآن بمن يسلم الدين المصري للأجانب؟!
ما تقدم عليه الحكومة المصرية من تكبيل الشعب وأصول مصر بالديون، بل وتمليك الأجانب لها شراء وتداولا، هو جريمة كبرى في حق المصريين وحاضرهم ومستقبلهم، فهي قضية تضرب مصر في الوتر الحساس ويجعلها أسيرة هذا الدين ودائنيها
ولم ينته العام 1943م حتى تم عرض سندات الدين الخارجي للاكتتاب للمصريين والأجانب في مصر بالعملة المصرية، وتم الاكتتاب بكامل قيمة السندات، وبذلك تم سداد الديون الخارجية المصرية التي بدأت مع عهد سعيد من خلال قانون تمصير الدين، وخرجت مصر من الحرب العالمية الثانية دائنة لبريطانيا بمبلغ 340 مليون جنيه، حتى قيام انقلاب تموز/ يوليو 1952م.
إن ما تقدم عليه الحكومة المصرية من تكبيل الشعب وأصول مصر بالديون، بل وتمليك الأجانب لها شراء وتداولا، هو جريمة كبرى في حق المصريين وحاضرهم ومستقبلهم، فهي قضية تضرب مصر في الوتر الحساس ويجعلها أسيرة هذا الدين ودائنيها.. فهل من رجل رشيد ينقذ البلاد والعباد؟
twitter.com/drdawaba