قضايا وآراء

نصيحة للسيسي: دع القلق وابدأ الحياة

ماهر البنا
1300x600
1300x600
اعتاد السيسي الارتجال؛ أو للدقة: اعتاد أن يظهر مرتجلا. فقد يكون فكر ورتب بروية وأحكم كلامه قبل النطق به، لكنه يحرص على أن يبدو حديثه عفو الخاطر، مع غرام بلحظات مرتجلة بعناية. تلك اللحظات اعتاد الذين يأخذونه على محمل الجد، دائما، التوقف عندها والتدقيق فيها.

يسأل؛ ولا ينتظر أن يجيب أي من الحضور، فهم يعرفون أنهم بصدد "منولوج" وليس "ديالوج"، يسأل: أمتى (متى) قلقت على الميه (المياه- قاصدا مياه نهر النيل)، ثم برهة من الصمت، ثم يطرح نفس السؤال بصورة أخرى، مشوقة: "تفتكروا من امتى" (منذ متى بدأت أقلق على مياه النيل)، ثم فترة صمت أقل من سابقتها، فإجابة: من 2011.

هل يمكن تصور سيناريو آخر؟ فهل يمكن أن يخرج أحد الحضور من رجال الدولة عن تراتبية القاعة، أو تخنه فطنته فيظن أن الرئيس عبد الفتاح السيسي يسأل فعلا؟ فيجيبه بما تسعفه به قدراته العقلية: بدأ قلقك سيادة الرئيس يوم 24 آذار/ مارس 2015، أي في اليوم التالي لتوقيعك في العاصمة  السودانية، الخرطوم، على اتفاق إعلان مبادئ حول مشروع "سد النهضة الإثيوبي العظيم"، وقد يستدرك؛ ذاك الذي خانته فطنته، فيقول "العظيم" موجودة في النص صراحة، وربما اعتبر أن كلامه في حاجة لتفسير فيردف: في اليوم التالي لا بد أن سيادتكم شعرت ببعض القلق البسيط لما في ذلك الإعلان من تهاون وتنازل حتى لا أقول "حسن نية"، وسيادتكم حساس من مسائل حسن النية تلك.

قد يمر السؤال الأول بلا إجابة، لكن الثاني قد يدفع أحدهم للقول: إنه مساء يوم 10 حزيران/ يونيو 2018، حين كنت في ذروة نشوتك من فرط الإيمان الذي غمر الحضور وأنت تستدرج رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للقسم الغليظ: "والله والله لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر". قلق سيادتكم ليس نابعا من شك في وفاء الرجل بقسمه، ففي النهاية سيحاسبه الله على اليمين الغموس، قلق سيادتكم راجع بلا شك لقسمك أنت: "والله والله لن نضر بكم (إثيوبيا) أبدا"، فالآن الرجل قد يضر بمصر وحسابه عند الله، لكنك عند قسمك، ولن تخلفه ولن تضر إثيوبيا، ولا السد، ولا الرجل.

الفقرتان السابقتان الافتراضيتان ليستا للتسلية، فالسيسي لا يُسلي عندما يرتجل، إنه يصيب الهدف مباشرة: 25 يناير هي السبب. ففي ذلك الصباح القاهري استشرف الغيب وعرف، وها هو يطلع المصريين على الأمر، صباح ذلك الثلاثاء كشفت له الحجب، وعرف: "عندنا مشكلة كبيرة، كبيرة قوي"، وبدأ القلق.

لن تنفع مع هذا القلق والارتجال أية فذلكات، أو مقارنة المواقف والوقائع وقياس الزمن والإمكانيات، من قبيل مقارنة الهزيمة في 1967 والنصر في 1973، إنها ست سنوات ورئيسان، وهذه سبعة وتزيد وأنت قلق. هل تفيد مقارنة أخرى؟ ربما، فلنأخذ خطوات السادات نحو التسوية المنفردة وصلحه مع إسرائيل، كم استغرقت؟ وفي أية ظروف داخليا وعربيا وعالميا؟ أربع سنوات. لسنا هنا، بالطبع، في حاجة للحكم على كل هذا وأسبابه فهذا يطول الجدال فيه. المهم أن أية مقارنة بين تلك الوقائع والظروف وبين موضوع سد النهضة ستفضي إلى أسئلة أخرى متعلقة كلها بدوام وتعاظم أسباب ودواعي الثورة وليس برجمها، والحط من مكانة الحالمين بواقع مغاير، واقع لا يناجي الرئيس فيه نفسه، لا يسمع إلا صوته، لا يفخر بالارتجال، ويتحاذق على رجاله، ولا يوغل في النكاية.

وقع الرئيس السيسي إعلان المبادئ بعد نحو أسبوع من انعقاد المؤتمر الاقتصادي، في شرم الشيخ، الذي يطلق عليه رسميا "دعم وتنمية الاقتصاد المصري"، والذي يقدم الملف التعريفي به على موقع "الهيئة العامة للاستعلامات" بهذه الجمل الدالة: "جاء انعقاد المؤتمر تنفيذا لمبادرة الراحل العزيز على قلوب المصريين جميعاً، الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي أطلقها دعماً لثورة الشعب المصري في 30 يونيو، وفي أعقاب انتخاب الرئيس السيسي لقيادة مصر. وكذلك نتاج عمل اللجنة التي تشكلت لتنفيذ المبادرة من وزير المالية السعودي ووزير الدولة الإماراتي سلطان الجابر، ووزراء المالية والتخطيط والاستثمار والتعاون الدولي المصريين".

وكان من بين الحضور في ذلك المؤتمر، رئيس الوزراء الإثيوبي السابق "هايله مريم ديساليغنه"، والرئيس السوداني السابق "عمر البشير"، وكان أن ركز المديران العامان لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، والبنك الدولي سري مولياني إندراواتي، اتصالاتهما بالقادة الثلاثة، وحفزاهم، وربما دفعاهم دفعا، للتوقيع على إعلان المبادئ.

ربما كان التقدير، وقتها، أن توازن القوى مختل بعض الشيء، وقد يتحسن بمرور الوقت، وأن التوقيع على الإعلان خطوة تكتيكية. أما عن المعارضة في مصر، عن الصحافة، عن البرلمان، الرأي العام، الخبراء في وزارتي الخارجية، الري، القوات المسلحة والمخابرات.. فهذه مسائل فرعية، المهم أن الرئيس قلق منذ صبيحة ذلك الثلاثاء، الشبح، الجني.

ثم مضت ثلاث سنوات ولم يتحسن ميزان القوى كثيرا، ذهب رئيس وزراء وجاء آخر.. آبي أحمد، رجل مخابرات عسكرية آخر.. وجد وثيقة تنضح باختلال التوازن لصالح بلاده، بعد شهرين من توليه السلطة جاء القاهرة، ليجد رئيسا كل ما يطلبه منه قسم مباغت على الهواء. فهل كان القسم من مخزون الارتجال، أم التدبر، أم القلق من 25 يناير؟

أخيرا، قد يفيد أن يقرأ السيسي شيئا مما كتب عن فوائد: دع القلق وابدأ الحياة.
التعليقات (0)