هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع مرور الذكرى العاشرة للثورة السورية التي انطلقت في منتصف آذار/ مارس من العام 2011 تعود بنا الذكريات للكثير من المشاهد والصور الإنسانية، مرورا بتلك المرتبطة بالعمل الخيري والشأن العام، وانتهاء بالشأن السياسي الذي أصبح أمرا يوميا واعتياديا في حياة السوريين. شكلت تلك المشاهد والتجارب محطات ومراحل في مدرسة الحياة الكبيرة؛ التي كان على كل السوريين، على اختلاف مشاربهم، خوض غمارها والتعامل مع صعوباتها بشكل مكثف، خلال فترة لا تعدّ طويلة في عمر الشعوب والأمم.
في كانون الثاني/ يناير من العام 2013، عقدت العزم على السفر إلى المملكة الأردنية الهاشمية لزيارة مخيم الزعتري، الذي كان يعدّ أكبر مخيم وتجمع للاجئين السوريين حول العالم، فبدأت التواصل مع مجموعات العمل الإغاثي الموجودة في المملكة المتحدة، لأكتشف لاحقا أنه لم يكن وقتها أي وجود كبير وملحوظ للمنظمات الإغاثية البريطانية المعنية بالشأن السوري على الساحة الأردنية، ثم وجدت ضالتي لاحقا من خلال مجموعة من السيدات السوريات الفاضلات من مدينة مانشستر، اللاتي قمن بتنسيق رحلة إلى الأردن في نهاية ذلك الشهر. اتفقت مع السيدة سامرة زيتون على التنسيق مع مجموعة السيدات المتطوعات، وأخبرتها بنيتي القيام بأنشطة خيرية داخل مخيم الزعتري، حيث تكون الحاجة.
قبيل موعد رحلتي، انتشر الكثير من الصور والأخبار عن الأوضاع الصعبة التي يعيشها سكان المخيم، حيث الطقس البارد وفيضانات الأمطار، التي جاءت لتضيف على معاناة السوريين فصلا جديدا. فكرت مع عدد من الأصدقاء والناشطين في المجال الإغاثي بالتركيز على الأطفال في حملتنا، ومحاولة تزويدهم بملابس وأحذية شتوية، علَّها تحمل لهم غوثا بسيطا، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
في مساء يوم شتوي بارد، وصلت إلى عمان التي أحبّ، ولي فيها الكثير من الذكريات، وحططت بعدها الرحال في الفندق بعد رحلة يوم طويل ومتعب. مشيت ليلا في شوارع عمان واستعدت بعض الذكريات، وكأنّي أحاول أن أواسي نفسي قبل ما سأشاهده في الأيام التالية من رحلتي، فوجدت العديد من المحلات السورية التي لم تكن موجودة سابقا. وترافق ذلك بطبيعة الحال مع وجود عمالة سورية بدأت تنتشر بشكل واضح في كل مرافق الحياة.
بدأت يومي الأول بزيارة لأحد المستشفيات في عمان لعيادة الجرحى والتعرف عن الوضع عن كثب قبل السفر إلى مدينة إربد، وهناك التقيت مع مجموعة من أطباء الجمعية الطبية السورية الأمريكية (SAMS)، واتفقنا أن نتحرك ونعمل سوية، وكانت تلك الرحلة من أجمل تجارب العمل الإغاثي الذي ساهمت به وبكل تواضع على مدى السنوات العشر الماضية.
في يومنا الثاني، زرنا مخيم الزعتري وصدمت مما شاهدت هناك، من حيث العدد الكبير داخل المخيم الذي فاق الخمسة وستين ألفا، إضافة لافتقاره للمرافق الأساسية للحياة، ومن ذلك عدم وجود مدارس سوى واحدة، عطلتها فيضانات الشتاء القاسية عن العمل. عملت مع زملائي السوريين القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية في مستوصفات المخيم، وشاهدنا الكثير من الحالات المؤلمة التي تحتاج إلى الكثير من الرعاية والدعم، وبشكل خاص الشباب الذين فقدوا أطرافهم وهم بحاجة ماسة إلى الأطراف الاصطناعية.
التقيت مع شاب في أوائل العشرينيات من عمره، وقد فقد ساقه في إحدى العمليات العسكرية للنظام، وبعد انتهاء الحديث حول ظروفه وإمكانية مساعدته من قبل مركز الأطراف الاصطناعية في الريحانية بتركيا، قمت بالاقتراب منه لأصافحه وأعانقه، فوضع يده على صدري حائلا بيني وبينه، ومبادرا بالقول: لا أريدك أن تلمس ثيابي، فهي مغبرة ومتسخة. فقلت له؛ إن هذا الغبار الذي يغطي ثيابك وثياب أهل المخيم، هو شرف لثورة الحرية والكرامة، وأتشرف أنا وغيري بالسلام عليكم.
انتقلنا ليلا مع زملائي الأطباء القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية لنقوم بعيادة مسائية في أحد المستوصفات المستأجرة في مدينة إربد، وكانت عبارة عن شقة بسيطة ومتواضعة في أحد الأبنية المأهولة بالسكان، وهناك تقاسمنا كل شبر من المكان الضيق لنعمل سوية، ونقوم بفحص أكبر عدد ممكن من المرضى. وبعد يوم طويل في المخيم والعيادات الخيرية، كنا نعود إلى عمّان بحافلة صغيرة خاصة، حيث كان الصمت والوجوم الحاضر الأكبر في رحلة العودة، وجميعنا يفكر بما شاهده وبما يمكن أن نقدمه من مساعدات وإغاثة.
في يومي الأخير، أخذت حقائبي معي في الرحلة إلى الزعتري لأنتقل من هناك إلى المطار مباشرة، وانتقلت مع أحد المرافقين إلى أطراف المخيم لتوزيع مساعدات عينية مباشرة على الوافدين حديثا للمخيم، وهناك تفاجأت بالورشات التي تعمل على شق طرقات جديدة وتهيئة المزيد من المخيم في مساحات شاسعة تفوق حجم المخيم آنذاك، وهو ما جعلني أشعر بالقلق والتوجس من مقبل الأيام، والخوف من موجة كبيرة من اللجوء، تلي اشتداد القصف والعمليات العسكرية التي يقوم بها النظام السوري.
بعد ثلاثة أشهر ونصف من تلك الزيارة، دعيت لندوة في البرلمان البريطاني برعاية أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني وحضور السفير الأردني الأستاذ مازن الحمود، للحديث عن الوضع الإنساني للاجئين السوريين ومشاهداتي من رحلة الزعتري، فتحدثت عن تلك المشاهدات وعن اليوم الأخير هناك وعن بقاء المأساة الإنسانية مستمرة. والمؤلم أن عدد اللاجئين قد ارتفع من 65 ألفا إلى قرابة ربع مليون خلال ثلاثة أشهر، لتفسر مشاهدات اليوم الأخير من توسع وتحضيرات تجري على أطراف المخيم. وعلى الرغم من سوداوية الأرقام التي أوردتها هناك، يبقى الأمل بكل سواعد الخير والجهود الأهلية والمجتمعية، فأن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة.
من نافل القول؛ بأن الوضع الإنساني الذي عانى منه الشعب السوري هو الأسوأ عالميا في العقود الأخيرة، ولكن تبقى العزيمة التي تحلى بها السوريون أكبر بكثير من همجية النظام ووحشيته، وهو إنْ قتل البشر وأحرق الشجر ودمر الحجر، لكنه لم يستطع النيل من إرادة شعب قرر التحرر والخروج من السجن الكبير إلى عالم الحرية والأحرار.
ولا بد لي أن أختم بالتذكير بأن التضحيات الهائلة التي قدمها السوريون على طريق الحرية والكرامة والعدالة، لا بد أن تفضي إلى النهاية المنشودة التي خرج من أجلها كل الأحرار في جميع ميادين الثورة، وهذا يقتضي الاستمرار بالعمل على مختلف الأصعدة الإنسانية والإغاثية والسياسية والحقوقية؛ لأن نصف ثورة هي انتحار محقق وأنصاف الثورات هي مقابر الشعوب.
* طبيب سوري- بريطانيا