هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من خلال حكاية عائلة فلسطينية تعاني الأمرين تحت الاحتلال الإسرائيلي، يسلط الكاتب الصحفي الأمريكي نيثان ثرول، في هذا المقال الطويل، الضوء على صمود الشعب الفلسطيني في وجه مشروع صهيوني عنصري اعتمد السلب والنهب والتهجير وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية منذ اليوم الأول.
بالإضافة إلى قصة العائلة الفلسطينية، يقدم الكاتب معلومات بالغة الأهمية وخلفيات تاريخية عن تهجير الفلسطينيين وتفتيتهم بشكل ممنهج من قبل الاحتلال، بهدف ضمان التفوق الديمغرافي لليهود في أرض فلسطين التاريخية.
وتنشر "عربي21" المقال على 8 حلقات، وتقدم لقرائها هذه الترجمة غير الرسمية للمقال الذي نشر أول مرة باللغة الإنجليزية في "ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس".
طالع الجزء الأول: حكاية عبد سلامة.. تقرير عن معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج1
طالع الجزء الثاني: حكاية عبد سلامة.. تقرير عن معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج2
طالع الجزء الثالث: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج3
طالع الجزء الخامس: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج5
طالع الجزء السادس: حكاية عبد سلامة.. معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج6
طالع الجزء السابع: حكاية عبد سلامة.. معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج7
وفي ما يلي الجزء الرابع من المقال:
يوم في حياة عبد سلامة
حكاية رجل يبحث عن ابنه تسلط الضوء على واقع الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال
الإسرائيلي
(6)
مدرسة نور الهدى، عناتا، الضفة الغربية، مارس / آذار 2021/ تصوير إيهاب جاد الله
بمجرد
أن تلقى عبد اتصالاً حول الحادث، سارع هو وابن عمه إلى الخروج من محل الجزار
وتوجها مباشرة إلى جبع.
قاد السيارة ابن عم عبد مجتازاً المرور الصباحي باتجاه مخرج عناتا الوحيد، ومتجاوزاً الفتيان الذين بدأوا العمل في ورشات تصليح السيارات التي ترفع لوحات باللغة العبرية لجذب الزبائن من المستوطنين، ومتجاوزاً مدرسة نور الهدى وجدار الفصل المحاذي لها، ثم ينطلق إلى الطريق المؤدي إلى نقطة تفتيش حزمة، وهي الرئيسية التي يستخدمها المستوطنون الذين يأتون إلى القدس من الشمال.
يعانق الطريق الجدار عند قرية حزمة الفلسطينية، ثم يتسلق تلاً مرتفعاً نحو مستوطنة تسمى رسمياً جيفا بينامين ولكنها تعرف محلياً باسم آدم – وهو نفس اسم شقيق ميلاد الأكبر.
عند تقاطع مستوطنة آدم، كان الجنود يمنعون المرور من التقدم باتجاه موقع الحادث. فترك عبد ابن عمه ونزل يهرول على قدميه باتجاه المكان. لوح لعربة جيش مارة، وطلب توصيله قائلاً إن ابنه في الحادث المروري. ولكن الجيش رفض طلبه.
عندما
وصل عبد إلى موقع التصادم كان نادر قد غادر منذ زمن. لم يتمكن عبد من رؤية الحافلة
للوهلة الأولى، فقد كانت القاطرة ذات الثمان عجلات تسد الأفق بوقوفها المعوج عبر
المسارب. كان العشرات من الناس ما زالوا متواجدين على الطريق بما في ذلك أولياء
أمور آخرون هرعوا إلى المكان.
سأل
عبد: "أين الحافلة؟ أين الأطفال؟" بعد لحظة رآها مقلوبة ومحروقة وفارغة.
حتى تلك اللحظة لم تكن سيارات الإسعاف وعربات الإنقاذ الإسرائيلية قد وصلت بعد. في
وقت لاحق من ذلك اليوم، وقف رئيس مكتب القدس في "زاكا"، إحدى منظمات الاستجابة
الطارئة في إسرائيل، ليفسر أسباب التأخر قائلاً إن فرقه، التي كانت أولاً بحاجة
إلى "الحصول على التصاريح الضرورية،" وجدت صعوبة في إيجاد موقع الحادث لأنه
كان قريباً من القرى الفلسطينية، التي لم يكونوا على معرفة بها.
وجد
عبد نفسه محاطاً بالشائعات، التي تناقلها جمهور المتفرجين الواحد بعد الآخر، تقول
إحداها إن أطفال الروضة أخذوا إلى عيادة طبية في الرام، على بعد دقيقتين من
المكان، بينما تقول أخرى إنهم موجودون في قاعدة للجيش الإسرائيلي في مدخل الرام،
وتقول ثالثة إنهم كانوا في المركز الطبي في رام الله، وتقول رابعة إنهم نقلوا من
رام الله إلى مستشفى حداساه في جبل المشارف. كان على عبد أن يقرر إلى أين سيذهب.
ولكنه ما كان ليتمكن ببطاقة هويته الخضراء من دخول القدس. بدا من غير المحتمل أن
تكون إشاعة وجودهم في الرام صحيحة، نظراً لعدم وجود مستشفى هناك، فطلب من شخصين لم
يكن يعرفهما توصيله إلى رام الله. وعلى الرغم من أن وجهتهما كانت في الاتجاه
المعاكس، وأنهما وصلا لتوهما بعد السفر جنوباً من جنين لمدة ساعتين ونصف، وافقاً
على أخذه دونما تردد.
كان
مشهداً من الفوضى العارمة داخل مستشفى رام الله: دوامة من صياح أولياء الأمور،
وضحايا على النقالات، وطواقم طبية، وأفراد من الشرطة، ومصورون، وطواقم تلفزيونية،
ومسؤولون من السلطة الفلسطينية. انطلق عبد نحو مكتب الاستقبال وأعطاهم اسم ابنه
ميلاد، فقيل له إن "ابنك مسجل في الحافلة الثانية. وتلك لم تصب في الحادثة. ولقد
أخذوها إلى الرام." كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها عبد عن وجود حافلة
ثانية. فاتصل بصديق كان له طفل في نفس صف ميلاد، وطلب منه أن يتأكد من زوجته التي
كانت تعمل معلمة في المدرسة، فعادت واتصلت مباشرة لتقول: "ميلاد مسجل في
الحافلة الثانية. إنه بخير."
(7)
كثيراً ما توصف الضفة الغربية بأنها منطقة حدودية فوضوية بلا قانون، حيث يقوم المارقون من المتطرفين اليهود بنصب المقطورات (الكارافانات) المتحركة على قمم التلال في تحد للدولة الإسرائيلية. والحقيقة هي أن خريطة مستوطنات الضفة الغربية إنما خططتها بدقة متناهية الحكومة الإسرائيلية ذاتها، حيث تناط بلجنة وزارية تابعة للسلطة التنفيذية مهمة الموافقة على المستوطنات، بينما تسخر لجنة فرعية في السلطة التنفيذية للتأكد من أنه يتم وصل هذه المستوطنات بشبكات المياه والكهرباء والمجاري والاتصالات والبنى التحتية للطرق في إسرائيل.
وتقوم السلطة التشريعية بسن قوانين معينة خاصة بالضفة الغربية لا تطبق إلا فيها. وتناط بمراقب الدولة مهمة الرقابة على السياسة الحكومية داخل الضفة الغربية، والتأكد من كل الأمور بدءاً بمنع التلوث بسبب المياه العادمة وانتهاء بضمان السلامة المرورية على الطرق. ويقوم المدعي العام بإنفاذ الإرشادات التي توجه الكنيست نحو تفسير كيف سيتم تطبيق كل تشريع يتم سنه على المستوطنات.
أما محكمة العدل العليا – والتي تمارس الرقابة القضائية على جميع المؤسسات الحكومية ووكلائها، وهي محكمة الاستئناف التي تعتبر ملاذاً أخيراً يلجأ إليه كل إسرائيلي وفلسطيني، سواء كان مواطناً أو من سكان المناطق المحتلة – فتصدر الأحكام التي تكرس نظام العزل القانوني في الضفة الغربية، حيث يوجد في نفس المنطقة مجموعة من القوانين والحقوق للمستوطنين الإسرائيليين ومجموعة أخرى دونية للفلسطينيين.
تشرف وزارة العدل على المحاكم المحلية في الضفة الغربية، والتي تطبق
القانون الإسرائيلي على المستوطنين ولكن ليس على الفلسطينيين. وأما مصلحة السجون
الإسرائيلية فتتمتع بصلاحيات كاملة في كافة المناطق، حيث تحتجز الفلسطينيين
والمستوطنين على حد سواء داخل سجون تقع ضمن الخط الأخضر.
أما
فيما يتعلق بالمستوطنات ذاتها، فهي مدمجة ضمن منظومة الحكم المحلي الإسرائيلية،
حيث تشكل مدناً ومجالس إقليمية ومجالس محلية تخضع لسلطة وزارة الداخلية. وتقوم
الوزارات الإسرائيلية – الإسكان والتعليم والاقتصاد والداخلية والزراعة والمياه
والنقل – بإنفاق ملايين الدولارات كل عام على تطوير المستوطنات. وبذلك يكون ابتلاع
إسرائيل للضفة الغربية مشروعاً وطنياً يشارك فيه كل فرع من فروع الحكومة وليس مجرد
نشاط تقوم به أقلية صغيرة من المستوطنين العقائديين.
طوابير مرورية في حالة انتظار عند حاجز قلنديا (2005)/ جيتي
تم منذ
1967 وضع أربع خطط كبرى للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، تشترك فيما
بينها بعدد من المبادئ الأساسية. ومن ذلك أن كل واحدة منها سعت لتوسيع الاستيطان
اليهودي، وتطويق السكان الفلسطينيين من خلال تثبيت الوجود الإسرائيلي في وادي
(غور) الأردن، وتفتيت المجتمعات الفلسطينية داخل المنطقة المطوقة، ومنح الأولوية
للاستيطان في منطقة القدس الكبرى بهدف فصل القدس الشرقية الفلسطينية عن بقية الضفة
الغربية، وباستثناء المكانين المقدسين في الخليل والقدس، تجنب غرس المستوطنات في
المناطق الفلسطينية ذات الكثافة السكانية العالية.
وبذلك تكون هذه الخطط، من حيث
الغايات الأساسية لها، قد نجحت.
كانت
أولى تلك الخطط هي خطة آلون، والتي اكتسبت اسمها من ييغال آلون، وزير العمل السابق
الذي كان أيضاً يشغل منصب رئيس لجنة الاستيطان. لم يحصل بتاتاً أن تبنت الحكومة
الإسرائيلية هذه الخطة بشكل رسمي ولكنها كانت بمثابة الموجه لسياسة الاستيطان
الحكومية في الفترة من 1967 إلى 1977. كانت تلك هي خطة الاستيطان الوحيدة التي مثلت
في نفس الوقت مقترح سلام إسرائيلي، وإن لم يكن لدى ذلك المقترح أدنى فرصة في
النجاح.
فقد دعت الخطة إسرائيل إلى ضم ثلث الضفة الغربية على امتداد حدودها الشرقية، بالإضافة إلى شريط يمتد من الشرق إلى الغرب في المركز الضيق من أراضيها التي تشبه الكلية من حيث الشكل، بما يخلف كانتونين (جزءين) فلسطينيين منفصلين أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب، كل منهما محاط من جميع الجهات بمناطق إسرائيلية. ثم اقترحت إسرائيل فيما بعد أن يستولي الأردن على تلك الكانتونات، والتي يمكن أن تتصل بعمان عبر كوريدور (ممر) ضيق.
ما لبث آلون نفسه أن اعترف بأن
الخطة كمقترح للسلام ما هي إلا أحبولة، حيث قال: "لا يمكن لعربي أن يقبل
بالخطة، ولن تتمخض عن شيء، ومع ذلك يجب علينا أن نبدو أمام العالم كما لو أننا لدينا
خطة إيجابية." ومع ذلك، لم تقيد الحدود المنصوص عليها في خطة التقسيم
المقترحة مهندس تلك الخطة، حيث راح آلون يشجع الاستيطان ليس فقط ضمن المنطقة التي
خصصتها خطته لإسرائيل، بل وأيضاً داخل تلك المناطق التي خصصتها للفلسطينيين، مثل
مدينة الخليل.
عندما
وصل حزب الليكود اليميني إلى السلطة في مايو / أيار 1977، كانت الحكومات التي
ترأسها حزب العمل، الذي يمثل تيار يسار الوسط، هي ومن سبقها قد أقاموا ثمانياً وأربعين مستوطنة في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين، غالباً في الحيز الذي
كانت إسرائيل تنوي ضمه طبقاً لما ورد في خطة آلون.
وأما
الخطة الثانية فطُورت في عام 1977 من قبل آرييل شارون، الذي كان حينها يتولى منصب
رئيس لجنة الاستيطان الوزارية خلفاً لآلون.
بدأت الخطة بالبناء على خطة آلون إلا أن شارون وعد بأن تكون المستوطنات "أكثر اتساعاً وكثافة مما كانت عليه في الماضي" – وقد أنجز فعلاً ما تعهد به. فكان أول ما ابتدعه شارون هو إضافة خط جديد من المستوطنات الممتدة من الشرق إلى الغرب، مما يفضي إلى تقسيم الضفة الغربية ليس فقط إلى كانتونين بل إلى ثلاثة كانتونات.
وعمل بالتزامن مع ذلك على إضافة شريط شمالي جنوبي من المستوطنات داخل واحد من هذه الكانتونات.
قال شارون حينها إن هدفه هو زرع إسفين من المستوطنات اليهودية بين مدن الضفة الغربية الشمالية الكبرى من جهة والمواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل من جهة أخرى، والذين يتواجدون بكثافة قريباً من الخط الأخضر، وذلك حتى يمنع الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية من تشكيل "كتلة عربية صلبة".
وحتى داخل الخط الأخضر، كانت
السياسة الاستيطانية التي انتهجت في عهد شارون تهدف إلى زيادة نسبة اليهود وتقليص
نسبة الفلسطينيين. وعن ذلك تحدث رعنان فيتز، الذي كان حينها يشغل منصب رئيس قسم
الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية، وهو قسم ممول من قبل الدولة ويعمل على
تنفيذ سياستها، حيث قال: "في الجليل، ينبغي أن يكون حلنا متمثلاً في أن يكون
لدينا كثرة من اليهود وأقلية عربية ضئيلة جداً."
وأما
الخطة الثالثة فوضعت بعد عام من ذلك، وكانت من تأليف الرئيس المشترك لقسم
الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية ماتيتياهو دروبلس، وكانت بشكل أساسي نسخة
مفصلة من خطة شارون، حيث تنص على إحداث مزيد من التفتيت في المناطق الفلسطينية
داخل الضفة الغربية، والتي تطلق عليها الحكومة الإسرائيلية اسم يهودا والسامرة.
وكان من أهدافها الرئيسية طمس الخط الأخضر من خلال إقامة مستوطنات يهودية جديدة
على كل من جانبي الخط، ونشر المستوطنات اليهودية "ليس فقط حول"
المجتمعات الفلسطينية، ولكن أيضاً كأسافين تغرس "فيما بينها طبقاً لسياسة
الاستيطان التي تم تبنيها في الجليل" (داخل الخط الأخضر). ولقد شرحت الخطة
الغاية من غرس هذه الأسافين على النحو التالي:
إن
الغاية من ذلك هي الحد من مخاطر تطوير دولة عربية إضافية في هذه المنطقة. فنظراً لأنها
ستكون مقطعة بسبب وجود المستوطنات اليهودية فلسوف يكون صعباً على الأقلية السكانية
خلق تواصل ترابي ووحدة سياسية. لا ينبغي أن يكون هناك أدنى شك بشأن نيتنا الاحتفاظ
بأراضي يهودا والسامرة إلى الأبد، وإلا فإن الأقلية السكانية قد تنتقل إلى حالة من
البلبلة المتنامية والتي ستفضي في نهاية المطاف إلى جهود متكررة لإقامة دولة عربية
إضافية في هذه المناطق. ولا ريب أن أفضل وأنجع سبيل لإزالة كل ظل من شك حول نيتنا
الاحتفاظ بيهودا والسامرة إلى الأبد يتمثل في تسريع عملية الاستيطان وزيادة زخمها
في هذه المناطق.
راحت
الحكومة الإسرائيلية تنفذ خطة دروبلس، والتي تم تحديثها في عام 1980، حتى عندما
كانت تتفاوض مع مصر حول ترتيب محتمل لمنح الفلسطينيين استقلالاً ذاتياً محدوداً في
ظل الحكم الإسرائيلي. حينها رفض الفلسطينيون رفضاً قاطعاً فكرة الاستقلال الذاتي
المحدود. ولكن بعد أقل من عقد، حينما أصبحت قيادتهم معزولة دوليا، ونضبت مواردها
المالية، واغتالت إسرائيل كثيراً من عناصرها، وكانت تعمل من المنفى انطلاقاً من
تونس البعيدة جداً، رضخوا وقبلوا.
خطة دروبلس
لعام 1978 لتطوير المستوطنات في الضفة الغربية، وإعادة تخصيص أراضيها بناء على اتفاقية أوسلو الثانية في عام 1995/ مايك كينغ
من
طرفها، كانت إسرائيل راغبة في أن ترفع عن كاهلها مهمة حفظ الأمن داخل المدن
الفلسطينية، فقد أرهقها الانهماك لما يزيد عن خمسة أعوام في مقارعة الانتفاضة
الشعبية الفلسطينية، الانتفاضة الأولى. وكان التمرد قد بدأ بتنظيم احتجاجات غير
مسلحة، وإغلاق المحلات، وإضراب العمال، ومقاطعة البضائع. ولكن بدخول الانتفاضة
عامها الخامس بدأت الحركة الشعبية بالتلاشي تدريجياً، مما أدخل الانتفاضة في أشد
مراحلها عنفاً. قامت إسرائيل رداً على ذلك بفرض إغلاق على الضفة الغربية وغزة
ابتداء من مارس / آذار 1993، بينما راح قادتها الأمنيون يحثون الحكومة على البحث
عن حل سياسي.
ففوض رئيس الوزراء المسؤولين الإسرائيليين بالدخول في محادثات سرية
مع ممثلين عن الفلسطينيين، الذين حثتهم إسرائيل باستمرار حتى آخر جلسة مفاوضات بين
الطرفين على إيجاد طريقة لوقف الانتفاضة. تمخضت اتفاقيات الحكم الذاتي – اتفاقيات
أوسلو في سبتمبر 1993 وما تلاها وتفرع عنها – عن إقامة السلطة الفلسطينية، والتي
ما زال الإسرائيليون حتى اليوم هم من يملون عليها مسؤولياتها ويحددون لها مناطق
عملها.
ولكن
عندما جاءت أوسلو كان عدد المستوطنين قد تجاوز ربع المليون بما في ذلك 111 ألفاً
في 120 مستوطنة في الضفة الغربية زائد 152 ألفاً يعيشون داخل ما يزيد قليلاً عن
عشر مستوطنات في القدس الشرقية. كانت خارطة أوسلو تخضع لتوجيه من مبدأين اثنين:
أما الأول، فهو التأكيد على أنه لن يتم إزالة أي من المستوطنات، وأما الثاني، فهو
التأكيد على أن الإسرائيليين سيحظون بتواصل ترابي بينما لن يحظى بذلك الفلسطينيون.
بالنتيجة، تطابقت خارطة أوسلو إلى حد بعيد مع خارطة دروبلس – فيما عدا أنها كانت
أشبه بمسودة الصورة. فبينما كانت خارطة دروبلس تعتبر الضفة الغربية كلية فلسطينية
مغطاة باثنين وعشرين كائناً أميبياً كل منها عبارة عن مجمع استيطاني، قلبت خارطة
أوسلو الضفة الغربية إلى كلية إسرائيلية تتخللها 165 جزيرة صغيرة يشملها الحكم
الذاتي الفلسطيني. كان الهدف من ذلك هو ضمان التواصل الترابي بين التجمعات
الاستيطانية الإسرائيلية.
قُسمت
أراضي الجزر الفلسطينية إلى صنفين. أما الصنف الأول فهو المناطق التي كانت إسرائيل
أحرص على التخلص من مهمة حفظ الأمن فيها، أي مراكز المدن، وصنفت على أنها منطقة
ألف، والتي تشكل أوصالها المقطعة معاً ما يقرب من 18 بالمائة من مساحة الضفة
الغربية. تقوم السلطة الفلسطينية في هذه المناطق بإدارة معظم الشؤون المدنية وحفظ الأمن
الداخلي، على الرغم من استمرار تواجد القوات الإسرائيلية ليس فقط حولها بل وأيضاً
داخلها وبشكل يومي. لا يملك الفلسطينيون أية سلطة قضائية على الإسرائيليين في أي
مكان داخل المناطق المحتلة، بما في ذلك في منطقة ألف، بينما تستطيع القوات
الإسرائيلية توقيف الفلسطينيين وإلقاء القبض عليهم كما تشاء، وحيثما وجدوا، بما في
ذلك على جرائم مثل سرقة السيارات. وأما الصنف الثاني، مناطق باء، فتشتمل على
البلدات والقرى الفلسطينية وتشكل ما يقرب من 21 بالمائة من مساحة الضفة الغربية.
تتولى إسرائيل في تلك المنطقة حفظ الأمن بينما تتولى السلطة الفلسطينية الشؤون
المدنية مثل الصحة والتعليم.
أما ما
تبقى من أراضي الضفة الغربية – والذي يشكل ما نسبته 61 بالمائة من مساحتها وهو
فعلياً بحر تعوم على سطحه الجزر التي تتشكل منها منطقتا ألف وباء – فهو القدس
الشرقية التي ضمتها إسرائيل وما بات يعرف بالمنطقة جيم، حيث تتحكم إسرائيل بالأمن
والشؤون المدنية الخاصة بتلك المنطقة، بما في ذلك توزيع الأراضي، والتخطيط، والإنشاءات
والبنية التحتية.
خارج القدس الشرقية المضمومة، فإن كل مستوطنة في الضفة الغربية
وكل طريق التفافي ومتنزه وطني وقاعدة عسكرية تدخل ضمن منطقة جيم. بالمجمل، منطقة
جيم والقدس الشرقية المضمومة والمنطقة المحايدة بجوار اللطرون وإسرائيل داخل الخط
الأخضر تشكل معاً 91 بالمائة من مساحة إسرائيل/فلسطين، يستثنى من ذلك مرتفعات
الجولان المضمومة. أما مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، في غزة والضفة الغربية،
فتشكل معاً التسعة بالمائة المتبقية.
يعيش
في المنطقة جيم ما يقرب من ثلاثمائة ألف فلسطيني وأكثر من 475 ألف يهودي إسرائيلي.
بإمكان الفلسطينيين التقدم بطلب للبناء بشكل قانوني فقط في المجتمعات التي أقرت
لها إسرائيل مخططات شاملة، وهو أمر نادر الوقوع. ونظراً لأن الفلسطينيين تنقصهم
مخططات شاملة في ما يقرب من تسعين بالمائة من مجتمعاتهم الكائنة في منطقة جيم،
فهذا يعني أن الفلسطينيين بإمكانهم أن يتقدموا بطلب بناء قانوني في أقل من واحد
بالمائة فقط من تلك المنطقة.
وحتى ضمن ذلك الواحد بالمائة، في معظم الأحيان لا يحصل الفلسطينيون بتاتاً على التراخيص التي يتقدمون بطلب الحصول عليها. بحسب الأرقام الإسرائيلية الرسمية، رفضت إسرائيل ما بين عام 2000 وعام 2020 أكثر من ستة وتسعين بالمائة من طلبات تراخيص البناء التي تقدم بها الفلسطينيون.
وخلال نفس
الفترة، هدمت إسرائيل آلاف البيوت الفلسطينية مما حول ما يقرب من عشرة آلاف إنسان
إلى مشردين بلا مأوى. في تلك الأثناء تم بناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية في
الضفة الغربية لليهود الإسرائيليين. ومن بين الأراضي الحكومية في الضفة الغربية
التي خصصتها إسرائيل لأي استخدام، لم يحصل الفلسطينيون منها إلا على ربع الواحد
بالمائة تقريباً، بينما مُنحت المستوطنات الإسرائيلية والبنى التحتية المخصصة لها
البقية الباقية والتي تصل نسبتها إلى 99.76 بالمائة.
صممت
اتفاقيات أوسلو لتكون مؤقتة، ولتسيير الأمور خلال "فترة انتقالية" مدتها
خمسة أعوام، من المفروض أن يتوصل الإسرائيليون والفلسطينيون في نهايتها إلى
اتفاقيات دائمة.
وعندما تقدم رئيس الوزراء إسحق رابين باتفاق أوسلو 2 إلى الكنيست قال إن الاتفاقية الدائمة التي
يتصورها تمنح الفلسطينيين "كياناً هو أقل من دولة." إلا أن الفلسطينيين
كانوا يأملون في الحصول على أكثر من ذلك. بعد شهر واحد لقي رابين حتفه على يد
إسرائيلي من تيار اليمين يعارض بشدة الاتفاقيات.
وفي
عام 1997، تلك السنة التي حددتها اتفاقية أوسلو لبدء التفاوض على ترتيبات الوضع الدائم،
نشر قسم التسوية في المنظمة الصهيونية العالمية خطة التسوية الرابعة، والتي عرفت
بخطة "المناطق السوبر". أخذت هذه الخطة الكانتونات الفلسطينية الثلاثة
التي صممها شارون وحولتها إلى أربعة كانتونات محاطة بما أطلق عليه "مناطق
محايدة" و"مناطق سوبر" من المستوطنات اليهودية.
تغطي هذه المناطق نصف مساحة الضفة الغربية. استهدفت الخطة إضافة ما يقرب من 115 ألف شخص في ستة وأربعين موقعاً جديداً لمستوطنات الضفة الغربية – وهي أهداف كانت الحكومة الإسرائيلية قد تجاوزتها قبل زمن طويل. يوجد اليوم أكثر من 250 مستوطنة في الأجزاء التي لم يتم ضمها من الضفة الغربية – بما في ذلك مدن وضواحي ومناطق صناعية ومجتمعات ريفية و"نقاط خارجة"، والتي هي عبارة عن مستوطنات أقيمت بدون موافقة رسمية مع أنها في حقيقة الأمر تحظى بدعم الدولة التي تزودها بالمال والإنشاءات والبنى التحتية والدفاع – وأكثر من عشرة أحياء استيطانية في المناطق التي تم ضمها في القدس وما حولها. يزيد تعداد السكان في كل هذه المستوطنات مجتمعة عن 683 ألف إسرائيلي، أي بمعدل واحد لكل عشرة مواطنين إسرائيليين.
استوعبت
جميع الخطط التي وضعت للضفة الغربية الحقائق التي استقرت على الأرض. ثم شكلت أوسلو
– اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية الوحيدة التي هي قيد التنفيذ – سابقة من
خلال رسم خط تضمن كل مستوطنة أقيمت داخل الحيز الذي يقع تحت السيطرة الإسرائيلية
الكاملة. عندما بنى رئيس الوزراء آرييل شارون فيما بعد جدار العزل، صمم مساره بحيث
يشتمل على كثير من المستوطنات الكبرى بما يتطابق إلى حد بعيد مع خارطته التي وضعها
في عام 1977.
وكان شارون في الأصل قد خطط لإقامة جدار عزل آخر في الشرق، بحيث
ينتهي الأمر إلى إقامة جدران على جانبي المراكز السكانية الكبرى في الضفة الغربية ويتسنى
لإسرائيل ضم ما تبقى من مستوطنات يهودية، تماماً كما ورد في خطته لعام 1977. ما من
مقترح سلام تقدمت به الولايات المتحدة أو إسرائيل، بدءاً من معايير الرئيس كلينتون
في عام 2000 وانتهاء برؤية الرئيس ترامب للسلام في عام 2020، إلا وطالب بأن تضم
إسرائيل الأراضي التي يقيم عليها إما جميع المستوطنين أو معظمهم.
اقترح
الزعماء الإسرائيليون أسماء مختلفة للكيان الفلسطيني الذي سينشأ في المناطق
المتبقية غير المضمومة. فأطلق عليه رابين عبارة "أقل من دولة" بينما
سماه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "دولة ناقصة" أو "حكم ذاتي
زائد." أما وزير الدافع السابق موشيه يعالون فقال: "من وجهة نظري،
بإمكانهم أن يسموه الإمبراطورية الفلسطينية." وأما آرييل شارون، الذي استخدم
عبارة "الدولة الفلسطينية" وترأس أول حكومة إسرائيلية توافق رسمياً على
الدولة، فوصف في محادثة روى تفاصيلها رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماسيمو داليما
المنتج كما تصوره مستخدماً كلمة مختلفة تماماً هي "بانتوستانات".
عبد سلامة يحمل صورة لميلاد آذار/ مارس 2021 - التقطت بواسطة إيهاب جاد الله
عبد سلامة، البيرة، الضفة الغربية، آذار/ مارس 2021 - بواسطة إيهاب جاد الله
رافعة تكمل قسما من جدار الفصل العنصري الإسرائيلي بالقرب من مخيم شعفاط للاجئين
القدس 20 كانون الأول/ ديسمبر 2011- جيتي
حفارة تهدم صفا من المحلات التجارية في مخيم شعفاط للاجئين
في القدس، الضفة الغربية، 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 - التقطت بواسطة أحمد غراب
فني الطوارئ الطبية نادر مرار، يعالج جريحا في سيارة الإسعاف في البيرة
الضفة الغربية، 2015- التقطها حرييت سالم
مسعفون للطوارئ في موقع التحطم قرب حاجز قلنديا، الضفة الغربية،
16 شباط/ فبراير 2012- جيتي
ناشطون إسرائيليون وفلسطينيون يحتجون على شارع 4370، الضفة الغربية
23 كانون الثاني/ يناير 2019- جيتي
ميلاد سلامة مع شقيقه الأكبر، آدم- بواسطة عبد سلامة نفسه
خطة دروبلز لعام 1978 لتطوير المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة
إعادة تخصيص أراضي الضفة الغربية وفقا لاتفاقية أوسلو الثانية لعام 1995- مايك كينج
توضح المنطقة الشمالية من شرق القدس التي تم ضمها بناء على بيانات رسم الخرائط من مكتب الأمم المتحدة/ مايك كينغ
مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين، محاط بسور من مستوطنة إسرائيلية
شرق القدس، الضفة الغربية، كانون الثاني/ يناير 2021 - بواسطة أحمد غراب
رسم ميلاد سلامة وهو يرتدي سماعات رأس من رسم فداء سلامة- 17 آذار/ مارس 2021- التقطت الصورة من فداء سلامة