هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تبلغ أزمة تونس السياسية المتواصلة منذ أشهر ذروتها، حيث تتعقد العلاقات بين الرؤساء الثلاث (الجمهورية، الحكومة، البرلمان)، وسط تنامي الخلافات والصراعات الحزبية والاتهامات والتسريبات، ما يطرح تساؤلات حول سبل الخروج من النفق المظلم.
ويشكل الاصطفاف بين حلف يدعم رئيس الجمهورية، قيس سعيد، وآخر يدعم رئيس الحكومة، هشام المشيشي؛ السمة الأبرز للمشهد، إذ لم تعقد لقاءات رسمية بين الرئيسين منذ أشهر طويلة.
وتتزايد المخاوف بشأن مستقبل البلاد، مع معاناتها من أزمة اقتصادية خانقة، في وقت يحذر فيه الخبراء من عجز الدولة عن دفع أجور الشهر الحالي نيسان/ أبريل، ما قد يفجر الوضع اجتماعيا، ويخرجه عن السيطرة.
وفي الأثناء، يبحث الاتحاد العام التونسي للشغل (نقابية عمالية) عن حل للخروج من الأزمة عبر حوار وطني يجمع كل الفرقاء السياسيين، دون تحديد موعد رسمي لعقده.
"صراع مرير"
وفي حديث لـ"عربي21"، قال أستاذ التاريخ والمحلل السياسي منذر القيطوني، إنه " لا شك بأن المشهد السياسي التونسي بلغ في الأسابيع الأخيرة حالة قصوى من الاستقطاب والتصعيد ، ربما تفوق ما حصل سنة 2013"، في إشارة إلى أحداث بلغت ذروتها بوقوع اغتيالات سياسية.
وبحسب القيطوني، فإن "المعركة الضارية مستمرة، ويستعمل فيها الجميع كل الأوراق والأسلحة المتاحة المشروعة وغير المشروعة، الداخلية والخارجية".
وأضاف: "ظاهريا، الصراع هو بين الرئاسات الثلاث، ولكن يمكن القول إن المشهد السياسي التونسي يحكمه الصراع بين قطبين أو مجموعتين رئيسيتين".
وأوضح القيطوني: "المجموعة الأولى تتكون من الحزام السياسي لرئيس الحكومة، هشام المشيشي، وتتميز بأنها أكثر تجانسا، وتتكون بالأساس من حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، وبدرجة أقل كتلة الإصلاح والكتلة الوطنية".
وتمثل النهضة، وزعيمها راشد الغنوشي، "الحلقة الصلبة لهذه المجموعة"، وفق تعبيره.
أما المجموعة الثانية، "فتتكون من الحزام السياسي للرئيس قيس سعيد، وتتميز بضعف التجانس إلى حد التناقض أحيانا، حيث تتكون من مجموعتين فرعيتين؛ الأولى يتزعمها شخص الرئيس، وتتكون من التيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وتحيا تونس، نسبيا. والثانية يتزعمها رئيس الحزب الدستوري، عبير موسي، ومن خلفها الأطراف والشخصيات الدستورية والتجمعية".
أفق "الحوار الوطني"
وبشأن أفق تنظيم حوار وطني جامع، يخرج البلاد من النفق المظلم، يقول الباحث والسياسي المستقل عبد الحميد الجلاصي، في قراءة تحليلية خاصة بـ"عربي21"، إن "المعيقات أمام انعقاد الحوار الوطني تعادل اليوم الدواعي لعقده، إذ لا يمكن انعقاد أي حوار دون تهيئة المناخات".
وأضاف: "وفي حين أن هذه المناخات اليوم متعفنة، والعوامل النفسية هي الأكثر حضورا، بينما السياسة فضاء يفترض فيه أن يكون عقلانيا تلجم الاعتبارات الذاتية إلى أقصى الحدود".
ويشكك الجلاصي في إمكانية الحوار من خلال "الساحة الأساسية لصنع السياسة، ومناخاتها اليوم هي الساحة الإعلامية، لكنها للأسف ترفع الجدران ولا تبني الجسور، ولذلك تنتشر الإشاعات والأقاويل وهتك الأعراض في كل الاتجاهات، بحيث تدمر كل الرمزيات، وتضعف إمكانية الجلوس على نفس الطاولة".
ويستدرك الباحث قائلا: "لكن بالمقابل تتكثف الضغوط على الفاعلين الأساسيين، فأمام البلاد استحقاقات مع شركاء دوليين يرفضون مواصلة التعامل في أوضاع الضبابية المؤسساتية".
واعتبر الجلاصي أن "من المخجل أن تصبح مسألة معتادة، مثل الجلوس على نفس الطاولة، تحتاج إلى وساطات، وتصبح أمنية، ومن المخجل أكثر أن يصبح الخارج أكثر حرصا على استقرار أوضاعنا ممن انتخبهم التونسيون لرعاية مصالحهم".
وأضاف: "إن النقطة المضيئة هي دور الوساطة الذي يقوم به الاتحاد العام التونسي للشغل، وقد تتغلب دواعي الحكمة، وينعقد الحوار الوطني، ولكن الخشية لدي بعد أن أضعنا كثيرا من الوقت وسممنا الأجواء، أن يفضي الأمر إلى ترتيبات تكتيكية ترحل الأزمة".
وبدوره، رأى الصحفي محمد الفوراتي، في حديث لـ"عربي 21"، أن "حظوظ نجاح هذا الحوار في الخروج بتوافق أو برنامج عمل، فهو ضئيل لعدة أسباب، أهمها عدم قناعة الرئاسة بجدواه، ووجود أجندات مسبقة لإقصاء أطراف سياسية بعينها".
واستدرك بالقول: "يبقى الأمل قائما، خاصة إذا وقع تجاوز عقلية الإقصاء، وتشريك خبراء في الاقتصاد بالأساس، لاجتراح ورقة عبارة عن خارطة طريق قصيرة الأمد؛ لإنقاذ البلاد من إفلاس محقق".
تهدئة وحوار
وفي المقابل، يقول أستاذ التاريخ منذر القيطوني إن "مستقبل المشهد السياسي تحكمه ثلاثة معطيات رئيسية؛ أولا ارتدادات الصراع على الطرفين المتصارعين، وضغط الرأي العام ، إذ إن المعركة بينهما تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة المدى، أنهكت كليهما، فبغض النظر عما يصدر عن عمليات سبر الآراء، فالثابت أن مصداقية الجميع لدى الرأي العام تتآكل باستمرار، والشعب الذي يئن تحت وطأة أزمة حادة متعددة الأبعاد من المهاترات والمناكفات السياسية والأيديولوجية، وكفر بنخبة ثبت لديه عجزها وفشلها".
أما المعطى الثاني، "يتمثل في ضغط المجتمع المدني، ممثلا خصوصا في مبادرة اتحاد الشغل المتعلّقة بالحوار الوطني، التي باتت تحرج وتعرّي جميع المتصارعين أمام الرأي العام، ومن ضمنهم قيس سعيد، الذي تحول إلى جزء من الأزمة بدل أن يكون جزءا من الحل".
وثالثا، "الأطراف الإقليمية والدولية، فبارومتر المشهد السياسي التونسي تحكمه أيضا مراكز الضغط الإقليمية والدولية، فلا شك أن تطبيع العلاقة بين قطر والسعودية، وبين تركيا ومصر، والمصالحة في ليبيا، وموقف القوى الدولية الفاعلة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي يميل إلى إنهاء حالة الاحتقان في الضفة الجنوبية للمتوسط، بدعم المصالحة والاستقرار في ليبيا، يدعم كذلك تجربة الانتقال في تونس".
ويختم بالقول: "نظريا ومنطقيا، كل هذه الاعتبارات، تدفع باتجاه التهدئة والمصالحة والانفراج، وتوفّر أرضية ملائمة لانطلاق الحوار الوطني وحل الأزمة، وبذلك يكون التصعيد الذي بلغ ذروته في الأسابيع الماضية بمثابة آخر الذخائر التي يتم إطلاقها، أو المحاولات الهجومية الأخيرة التي تهدف إلى كسب بعض المواقع من باب تحسين شروط التفاوض؛ استعدادا لجولات الحوار الوطني الوشيك".