لم يطلب السيسي من وزير نقله الاستقالة بعد حادث
تصادم
قطاري سوهاج، وما نتج عنه من ضحايا، لن نكذب في أعدادهم في الرواية الرسمية، لكننا
في الوقت نفسه لا نسلم بها!
ولم تكن استقالة وزير النقل بدعة عند وقوع
حوادث كبيرة،
كمثل هذا الحادث، فتراث
مصر يعرف هذا النوع من الاستقالات، وعندما وقع حادث قطار
الصعيد في عهد مبارك، كان وزير النقل إبراهيم الدميري في الخارج، وعاد إلى القاهرة
بعد أيام، ووعد بأنه سيعقد مؤتمراً صحفياً في المطار بعد وصوله، لكنه لم يفعل، لتعلن
استقالته.
وقد كتبت حينئذ أن إعلانه عن المؤتمر الصحفي ينفي أنه
استقال، والصحيح أنه أقيل. وكان نظام مبارك قد بذل جهوداً مضنية من أجل الخروج من
الأزمة بأقل الخسائر. وأضحك رئيس الوزراء عاطف عبيد الثكالى عندما ألقى باللائمة على
العنصر البشري، وقال إن أحد "الصعايدة" كان يقوم بإعداد الشاي على موقد داخل
القطار اصطحبه معه في رحلته، وبلغت به البلاهة أنه قدم لنا هذا الموقد في مؤتمر له.
كتبت يومها في زاويتي اليومية مقالاً حمل عنوان "أخضر زرعي"، فالموقد
المعروف في بيوت أهل الريف وله أسماء مختلفة في كل محافظة، وبأكثر من اسم في
المحافظة الواحدة، كان لونه أخضر، ولم ينله الأذى الذي صهر البشر والحديد، وكان
واضحاً لشخص مثلي تعامل مع هذا الموقد أنه تم جلبه تواً ولم يسبق استخدامه قط!
إنها نفس
نظرية "البلف" لصاحبها "كامل
الوزير"، وزير النقل، عندما بادر بإعلان أن هناك من عبثوا في "فرامل
الطوارئ" فأفسدوا "البلف" الأمر الذي نتج عنه الحادث، ومن ثم أعلن
في بيان رسمي أن مجهولين يقفون خلفه، فاستشعر النائب العام الأزمة، ومن ثم طلب في
بيان رسمي من كافة الجهات التوقف عن استباق التحقيقات والإدلاء بمعلومات عن الحادث.
وكان الجنين في بطن أمه يعلم أن هذا الطلب موجه لشخص الوزير الذي يدفع في اتجاه
آخر، ويستر قصوره واهماله ومسؤوليته عن الحادث بطرف ثيابه!
فلما جن الليل بدا أن هناك من سرب شائعة إقالته لصرف
الانتباه عنه، حتى امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بهذه البشريات، ومن نشطاء فيسبوك
من يتصرفون على أنهم صحفيون، يضيف إليهم السبق الصحفي، فيزاحمون في نشر مثل هذه التوقعات،
بل إن منهم من يستخدم الثقافة الصحفية في التعامل، فيقول لا يسأله أحد عن مصدره،
اشتقاقا من القاعدة الأصولية التي نصها "لا يُسأل الصحفي عن مصدره"،
فاتهم أن قيمة السبق الصحفي لا تكون على النجاح في "التخمين"، أو الفوز وفق
قواعد "التنجيم"، وليس كذلك بالاستنتاجات المستمدة من التحليل، ولكن
بقدرة الصحفي على التوصل للمعلومة قبل غيره استناداً لمصادره الخاصة، فالسبق خبر،
وليس ضرباً للودع!
السيسي لن يفرط في "كامل الوزير" بسهولة، لأنه - من ناحية - لا يريد أن يضع قاعدة محاسبة المسؤول المهمل، فهذا سيسقط عنه امتياز أنه صاحب القرار، الذي لا تتأسس زعامته إذا كانت الجماهير تنازعه الحق في عزل هذا المسؤول أو ذاك، ولو بمجرد الضغوط
سلطان كامل الوزير:
كنت أدرك أن
السيسي لن يفرط في "كامل الوزير"
بسهولة، لأنه - من ناحية - لا يريد أن يضع قاعدة محاسبة المسؤول المهمل، فهذا
سيسقط عنه امتياز أنه صاحب القرار، الذي لا تتأسس زعامته إذا كانت الجماهير تنازعه
الحق في عزل هذا المسؤول أو ذاك، ولو بمجرد الضغوط، ومن يقرأ شخصيته سيقف على هذا
بسهولة.
ومن ناحية أخرى، فإن "كامل الوزير" هو من
دائرة حكمه الضيقة، والسيسي يرى أنه من اكتشافاته الكبيرة، وأن عبقريته تجلت في
هذا الاختيار الضرورة، رغم أنه عندما أخرجه من الخدمة العسكرية للحياة المدنية كان
بعد خوفه منه بعد سطوح نجمه، فصنع للجماهير إلها من العجوة، ثم خاف من أن ينظر له
الرأي العام باعتباره ملهما، بما يجعله منافساً له في الوجدان العام، لا سيما إذا
كان الخيار هو من داخل الجيش، فليكن واحداً تنسب إليه الفتوحات، بدلاً من الاختيار
البائس القائم الآن، وحتى لا يفتن الناس به. وعندما اندفع الصحفيون للكتابة عن
عظمة وزير النقل الجديد، وإنجازاته، صدرت التعليمات بوقف الدعاية له، واستمر هذا
لبعض الوقت، إلى أن وقعت
بعض الحوادث، وبدأ الوزير يواجه بالهجوم عبر منصات
التواصل الاجتماعي، عندئذ لم يجد السيسي فيه منافساً محتملاً، فعاد من جديد يتبناه،
من باب الدعاية للجيش كمؤسسة حكم وإنجاز!
وما جاء في الفقرة السابقة ليس تحليلاً قائماً على
الاجتهاد، ولكنها معلومات، بما فيها القرار السابق بالتوقف عن الدعاية له!
إن الجميع كان يدرك أن اختيار "كامل الوزير"
لوزارة النقل إنما يمثل انتحاراً، لأنه عند أول حادث في السكك الحديدية سيكون
التصور العام بأنه لا شيخ تحت القبة ولا ولي يسكن الضريح، ومن هنا يكون السيسي قد
حكم عليه بالفشل بهذا الاختيار. واعتقد البعض الذين يسلمون بعبقرية الجنرال أنه
اختيار مستهدف في حد ذاته، لإنهاء أسطورة الوزير والتي بناها السيسي له، لكنه كان
يبني أسطورة الجيش باعتباره الجهاز الوحيد في مصر القادر على البناء والتفوق، فاستفاد
الشخص من هذه الدعاية بشكل كبير!
الرؤية التي أراها أقرب للحقيقة، أن هذا الاختيار لمرفق يتعامل مع آلاف البشر كل يوم، هو من باب الدعاية للمؤسسة العسكرية، لا سيما أنه أعلن عن تخصيص المليارات له بما يمكنه من النجاج ومن ثم الدعاية، والتي ضن بالقليل منها على من سبقه في هذا الموقع
الرؤية التي أراها أقرب للحقيقة، أن هذا الاختيار لمرفق
يتعامل مع آلاف البشر كل يوم، هو من باب الدعاية للمؤسسة العسكرية، لا سيما أنه
أعلن عن تخصيص المليارات له بما يمكنه من النجاج ومن ثم الدعاية، والتي ضن بالقليل
منها على من سبقه في هذا الموقع. ولعله كان مستلهما هنا لتجربة "باسم
عودة" في وزارة التموين في زمن الرئيس
محمد مرسي، والذي نجح بشكل مذهل وغير
مسبوق في تاريخ هذه الوزارة، فمثل هذا النجاح دعاية للحكم، لدرجة أن البرادعي
وباعتباره ممثلاً لجبهة الإنقاذ، أعلن رفضه استمرار "عودة" في منصبه،
لأن نجاحه سيحسب على الحكم الإخواني، وبدا لي أن لسان الرجل فضحه، فهل يعقل أن
يجهر بالمعصية على هذا النحو؟!
الصعيد وأهله:
ولو جاء كامل الوزير لتولي مرفق ناجح، لما مثل نجاحه
إضافة، والمطلوب أن يتم تقديمه على أنه تعبير عن المؤسسة الملهمة، فكان الاختيار
المغامرة، لكن أعتقد أن دفعاً إلهيا وقف خلف القرار.. علم الله أن فيكم ضعفاً،
فتبدت السوءات للناظرين. والمهم أن هذا الفشل كان من شهوده أهل الصعيد وفي محافظة
يأخذ عليها البعض أنها لم تشارك في الثورة. وقد كانت مثار السخرية في ذلك، لعلها
لهذا سعت برد الاعتبار بانتخاب القوائم الحزبية التي تراها الأكثر معارضة للنظام
البائد، في انتخابات البرلمان بغرفتيه، ثم إنها انتخبت من رأته الأقرب إلى حسابات
التعارض مع دولة مبارك وهو الدكتور محمد مرسي، وكان الموقف مشهوداً عقب الانقلاب
العسكري!
غاب المحافظ "الجنرال المستورد" وغاب نائبه "الجنرال أيضاً"، وغابت المحافظة تماماً، وحضرت الجماهير بكثافة على كافة الجبهات، بدءاً من محاولة إنقاذ الضحايا، وليس انتهاء بالتبرع بالدم!
عندي دفاع عن عدم مشاركة محافظات الصعيد في الثورة (حدثت
بعض المظاهرات في قنا)، قائم على دراسة المجتمع الصعيدي، ليس هذا مجالها، لكن كانت
الخطورة على النظام أن تقع حادثة كبيرة ومفزعة بهذا الشكل في قلب الصعيد، لتصل
أصداؤها إلى عموم القطر المصري وتتجاوزه إلى خارج الحدود. وهنا تجلى لهم عجز
الحكومة وإهمالها، وغيابها أيضاً. فحضور الحكومة الذي بدأ بالبيانات من بعد، كان
بعد ساعتين ونصف من الحادث، وغاب المحافظ "الجنرال المستورد" وغاب نائبه
"الجنرال أيضاً"، وغابت المحافظة تماماً، وحضرت الجماهير بكثافة على
كافة الجبهات، بدءاً من محاولة إنقاذ الضحايا، وليس انتهاء بالتبرع بالدم!
وكان ينبغي أن
يقال الوزير، ولم تكن إقالته من شأنها أن تغطي
على هذا القصور والإهمال، وإحساس المواطن أنه مهمل لأنه في هذه المنطقة البعيدة عن
العين، وأنه لا دولة هناك تقوم على رعايته، فالإقالة كانت ستخفف من الشعور
بالمرارة، ولكنها لن تكون ورقة التوت التي تستر العورات!
ولولا أن الإنسان خُلق عجولاً، لقلت إن بقاء الوزير أفضل
من عزله في الانتصار لفكرة الدولة المدنية التي تخلت عنها النخبة، بعد أن غلبت
عليها شقوتها، فاستدعت الجيش للقيام بالانقلاب على الرئيس المصري المنتخب!
إن بقاء الوزير أفضل من عزله في الانتصار لفكرة الدولة المدنية التي تخلت عنها النخبة، بعد أن غلبت عليها شقوتها، فاستدعت الجيش للقيام بالانقلاب على الرئيس المصري المنتخب!
وأزمة التحول الديمقراطي في مصر تكمن في أمرين: الأول أن
الديمقراطية والدولة المدنية تبدو من القضايا التي تشغل النخبة وليس الجماهير، والثاني
في ايمان الناس بقدرة المؤسسة العسكرية على البناء أكثر من غيرها، وهو ما تم
التعبير عنه (والناس يشاهدون فوضى لا يبدو في الأمد المنظور أنها ستنتهي) بأنهم
يحتاجون إلى "حاكم دكر"، لن يكون أبداً سوى من الجيش!
وفي الواقع أن نهاية الحكم المباشر للجيش كانت في سنة
1968، ومن بعدها كانت تجربة أقرب للحاكم المندوب عن الجيش. وإذا كان هناك اختيار
لبعض العسكريين السابقين لبعض المواقع العليا، فقد كانوا فئة كفئات أخرى مثل
أساتذة الجامعات، وأبناء الحكم المحلي، والشرطة، وهو سلوك لجأت إليه دولة يوليو
بعد أن ألغت السياسة فاعتمدت حكم التكنوقراط!
إن شئت الدقة فقل إن الحكم في مصر لم يكن عسكرياً، بل
كان بوليسياً منذ أن تخلص جمال عبد الناصر من عبد الحكيم عامر وصلاح نصر، ومن
الحضور العسكري المناوئ له في ميدان السياسة والحكم، وصار وزير الداخلية في عهد
مبارك - على سبيل المثال - هو الحاكم على الأرض عبر أجهزته، وصاحب نفوذ أقوى من
وزير الدفاع إن كان لوزير الجيش ثمة نفوذ!
وعاد الجيش إلى ثكناته، وحضرت الشرطة، فبنت الجماهير في
خيالها موقعا متميزا لهذا الغائب عن الحكم، ولهذا وافق الثوار على الفور بقرار
مبارك تسليم الحكم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فبدا صرحا من خيال فهوى!
كان القرار المهم هو قرار السيسي بأن يحكم حكماً مباشراً، والمشكلة في أنه مثل النسخة الأردأ لحكم العسكر، وأصبح الناس أمام الحكم العسكري وجهاً لوجه وبدون حجاب، فكان الفشل، وكانت الدولة التي لا يستفيد منها أكثر من ألف شخص
وكان القرار المهم هو قرار السيسي بأن يحكم حكماً
مباشراً، والمشكلة في أنه مثل النسخة الأردأ لحكم العسكر، وأصبح الناس أمام الحكم
العسكري وجهاً لوجه وبدون حجاب، فكان الفشل، وكانت الدولة التي لا يستفيد منها أكثر
من ألف شخص، مثّلوا بالاستفادة الكبيرة التي حصل عليها كل فرد استفزازاً للناس، وها
هو الرمز يتهاوى، بينما المُلخص لمرفق النقل العام يبدو خطاباً وأداء هو الفشل
الكبير، وانتهت أسطورة المقدس!
ووصلت للناس أهمية أن يكون الحكم مدنياً منتخباً، ولاؤه
للشعب صاحب القرار في اختياره، وأهمية ألا يكون عسكرياً، وعلى نحو يجعل من السيسي
أكثر الداعمين للحكم المدني. وكل يوم يمر عليه وهو في الحكم يمثل مزيداً من الدعاية
للدولة المدنية والحكم الديمقراطي، فماذا لو استمر في موقعه
إلى 2030؟! أدرك أن الفاتورة ستكون باهظة، وأن الثمن سيكون كبيراً، وكان الإنسان
عجولا، لكن ما قيمة عشر سنوات في عمر الدول، ولصالح الحرية التي لم ندفع مهرها
بشكل كامل؟!
فلا تحسبوا كامل الوزير شراً لكم.. بل هو خير لكم!
twitter.com/selimazouz1