قضايا وآراء

ما قبل الأفغاني وما بعده!

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

لعلَّ أخطر المؤثرات السامَّة - وأفحشها أثراً - على قراءة تاريخ سلف هذه الأمَّة المتقدِّمين؛ هو الإطار الحداثي الاختزالي، الذي تجري داخله مثل هذه القراءات؛ لتُثمِرَ لغواً هجيناً، لا هو بالتراثي ولا بالحداثي. وهو سجن معرفي ومنهجي لم يَستطع أكثر الباحثين المحدَثين إدراك وجوده أصلاً، ناهيك عن الخلاص منه؛ فظلوا أسرى لأوهام تتسمَّى بـ"المنهج العلمي الحديث"، وهي في حقيقة الأمر بِنَى حلوليَّة قطيعيَّة، تُكرِّس الإمبريالية المعرفيَّة، وتثبِّتُ قدم المستشرِق والباحث الأجنبي، وترسِّخ التبعيَّة لمُنتجه "المشبوه". ويزيد الطين بلة حين يكون الباحث المسلم "مُتديناً" أو "مُلتزماً" أو "إسلاميّاً" - أو هكذا يُصنَّف! - خصوصاً وقد اصطبغ التديُّن في نصف القرن الأخير بسمتٍ سلفي-وهابي اختزالي تسطيحي، يسير مع الحداثة المُلحِدَة يداً بيد لتقويض كل تركيبيَّة لا في تاريخنا فحسب، وإنما في محاولتنا قراءة هذا التاريخ كذلك.

وإذا كان المستشرق أو الدارس الأجنبي مُطرداً منهجيّاً ونفسيّاً مع تاريخه وتراثه وتجربته، وإذا وَسِعنا الإفادة من جديته ودأبه ودقته في دراسة تاريخنا، والتنقيب في مدوناته؛ فإن الكارثي أن ننقل أدواته ونُعيد إنتاجها واستخدامها، بغير وعي بما تُعبِّر عنه هذه الأدوات من تحيُّزات، بصدورها عن رؤية كونيَّة مُخالفة كليّاً، بل مناقضة لمبادئ التوحيد. وإذا كان من الإجحاف إنكار أي فضل للاستشراق وخلفائه، فإن من الغفلة تلقُّف أدواتهم ومحاولة استخدامها - بغير تفكيك وتركيب - حتى إن كان ذلك في مواجهتهم. فإن أيسر طريق لاستمرار أسرنا في قفص العلمنة الاختزاليَّة الحديدي للحداثة هو: "العمل من خلال خطة العدو"؛ فمنه أوتيَت أكثر حركات المسلمين الفكريَّة والسياسيَّة منذ إلغاء "الخلافة" العثمانيَّة، وهو تفصيلٌ لا مجال له هاهُنا، وإن كنا عالجناه كثيراً فيما نكتب(1).

لكنَّ ما يعنينا في هذا المقال هو التنبيه على أثر هذا "النهج" الحداثي-الاختزالي على إدراك جوهر فكر السيد جمال الدين الأفغاني وحقيقة جهاده. وإذا كان هذا النهج الاختزالي كارثي الأثر في قراءة تاريخنا قبل القرن التاسع عشر، فإنه كارثيَّته لا تقِل بالمرَّة إذا اقتربنا به من نهايات ذلك القرن المفصَلي المرتَبِك، وخصوصاً ثُلثه الأخير؛ بما إنها المرحلة الانتقاليَّة - شديدة التركيبيَّة - التي عبرنا من خلالها إلى الحداثة عبوراً تفاوَت عُنفه بتفاوت عُنف القائم بترشيد الواقع في بُلدان ما أسميه بـ"مثلث المركزيَّة الإسلاميَّة": إيران ومصر وتركيا.

وإذا كان الجهل بالسيد وفكره شديد التجذُّر في بني جلدتنا - حتى في أوساط الباحثين المتخصصين - كما بيَّنا أسبابه في مقالٍ سابقٍ(2)، وأشرنا إلى الإجراء المنهجي الأوَّلي الذي اتخذناه، مُتمثلاً في إعادة نشر تُراثه؛ فإن الأزمة لن تزول والجهل لن يرتفِع إذا ظللنا نتعامَل مع ما خلفه نفس المعاملة الخاطئة، التي تُكرسها الأدوات الاختزاليَّة المستخدَمة بالفعل، ناهيك عن استمرار جهلنا التام بتركيبيَّة السياق الذي تحرَّك فيه.

إن أكثر من كتبوا عن الأفغاني منذ ستينيات القرن العشرين، سواء أكانوا ممن تلقَّفوا مادَّة كتابتهم من مُتقدمي الحداثيين المسلمين، أم من متأخري المستشرقين؛ إنما تتجلَّى في كتاباتهم ثلاثة إشكالات "منهجيَّة"، مصدرها حجاب الحداثة، وفساد أدواتها وبنيتها.

أول هذه الحُجُب الإشكاليَّة تجده عند من اختلفوا حول مسقط رأس السيد، وسعوا لـ"تحقيق نسبته". فهؤلاء الذين ولدوا ابتداءً داخل السياج الحدودي الصارِم، للدولة القُطريَّة التجزيئيَّة الحديثة، ولم يعرفوا غيره؛ لم يستطيعوا تحرير إدراكاتهم من قيودها المجبولة، سواء أكانت قيوداً مرئية ملموسة مثل الحدود المغلَقة أمام الحركة والتنقُّل، أم كانت قيوداً معنويَّة محسوسة مثل الضمور الكامل للشعور بلُحمة الأمَّة وارتباطها العضوي. وهو أمر لم يكُن بهذه الحدَّة حتى في عصر الأفغاني، إذ كانت الحدود ما تزال سائلة مفتوحة إلى حدٍّ كبير، ولم تكن القوى الكولونياليَّة قد رسمتها ترسيماً "نهائيّاً" وأغلقتها بعد. لم تكُن مفتوحة على مصاريعها كما كان الحال قبل الغزو الكولونيالي، لكنَّها لم تكُن قد أقفِلَت بعد ولا اختُرَعت أكثر "دول" اليوم القُطريَّة، بحدودها التي يعرفها ذراري المسلمين. علاوة على ذلك، فإن التقاطُع الكبير بين الإيرانيين والأفغان - لغويّاً وإثنيّاً وجغرافيّاً وتاريخيّاً ومذهبيّاً - قد جعل من الجزم بهذه النسبة بـ"أثر رجعي" - في ضوء الحدود الحديثة - مُجرَّد لغو أحمق لا قيمة له، مثله مثل القول بأن البخاري أوزبكي، وأن الغزالي إيراني، وأن الهروي أفغاني، وأن الرومي تُركي - رغم أن كلهم ينتمي إلى ما يُمكن تسميته بـ"الدائرة الفارسيَّة" للحضارة الإسلاميَّة - فلا يُمكن نسبة العَلَم إلى الشيء التالي عليه، كما بيَّن القرآن استحالة نسبة أبي إبراهيم - عليه السلام - إلى اليهوديَّة أو النصرانيَّة.

ورغم ذلك، فأن الدارِس المحقِّق لا يستطيع نفي نسبة السيد إلى أهل فارس (بمعناها الواسع)، بل قد يذهب إلى تأكيده، خصوصاً حين يتبيَّن أنه كان بدهيَّة يعرفها العثمانيون - كما تُظهِر تراجم الأعيان العثمانية التي ظهرت في ذلك التوقيت - على الأقل إبَّان إقامة السيد الأخيرة في الأستانة، التي سبقت وفاته. لكنَّ الباحث المدقق يتربَّص كذلك ممن يجعل نسبة السيد إلى قومٍ سبيلاً إلى تهميشه، ونفي دوره - كما يوحي جمهرة المستشرقين للحمقى من بني جلدتنا - أو يتخذها تكأة للطعن في صدقه وإخلاصه، وهو يجهل كل شيء عنه وعن جهاده وفكره.

والأنكى أن يعمَد بعض هؤلاء الأدعياء إلى القول بأنَّه "تعمَّد" التعمية على "أصله" بنسبة نفسه إلى الأفغان، ويتناسون أن أهل العلم كانوا ينسبون أنفسهم إلى بُلدانهم، والبلدان التي نزلوها لطلب العلم أو طلب الرزق، ناهيك عن نسبة أنفسهم لمذاهبهم وأسرهم، بل ولشيوخهم أحياناً. ومن ثم، كان تعدُّد الألقاب التي اتخذها السيد - كما يتجلَّى من أوراقه الخاصة (الأفغاني، الكابُلي، الإسلامبولي ...إلخ) - أمراً مفهوماً وطبيعيّاً في هذا السياق ما قبل الحداثي. بل إن هذا كله يصير لغواً لا قيمة له، إذ تَجُبُّ نسبته الثابتة إلى آل البيت النبوي الشريف أي نسب.

وليس أضل من الباحث الذي "يُحاكم" الرجل على لافتة انتمائه إلى "إيران"، بسبب عُقدَةٍ مذهبيَّة أو موقف سياسي من "القُطر الإيراني" اليوم، أو بسبب قصور واختزاليَّة إدراك الباحث لتركيبيَّة تاريخنا آنذاك.

أما ثاني الإشكالات، التي صنعت منها حُجُب الحداثة غشاوة على بصائر الباحثين "المسلمين"؛ فهي مذهب السيد، أو بعبارةٍ أدق: خلفيته المذهبيَّة؛ إذ "الثابِت" عند من صحب كتابات السيد أنه لم يكن مطرداً في اعتقاده بحسب أي من الأنظمة الاعتقاديَّة المدرسيَّة، المبسوطة في كتب الفرق والكلام. وإن الناظر في كتاباته نظرة تدقيق؛ يجده مُحققاً في الاعتقاد، يقبَلُ من الإماميَّة ومن المعتزلة ومن الأشاعرة والماتريديَّة، ومن أهل الحديث؛ لكنَّه يتجاوَز المذاهب الاعتقاديَّة المألوفة لبناء اعتقادٍ يستَمِدُّ تعاليمه من الوحي مباشرة، وهذا أمر بدهي لمن يحمل عبء دعوة إحيائيَّة تجديديَّة في لحظة فاصلة. وبطبيعة الحال، فقد كان هذا النزوع التحقيقي سبباً في تعسُّر تصنيفه وقولبته، وإن يسَّر تبديعه وتفسيقه على الكثيرين، وأولهم المعمَّمين العثمانيين.

وأكثر الباحثين الذين يلوكون مسألة المذهب و"الأصل" لا اطلاع لهم على تاريخ، ولا معرفة عندهم بصورة التعايُش الغالِبة على العلاقات بين الإسلاميين - من أصحاب المذاهب العقديَّة والفقهيَّة المختَلِفة - إلا في الأوضاع التاريخيَّة الاستثنائيَّة، التي عرفها أهل الدرس والتمحيص. لكنَّ الراجح عندي ليس نقص اطلاع هؤلاء، وإنما تدليسهم المتعمَّد، على مذهب محب الدين الخطيب؛ الذين كان يتَّهم الشيعة بـ"تقديس" التقيَّة إلى الحد الذي يُكثرون فيه من اتخاذ لقب "تقي الدين"، لكنَّه لا يبوح لقارئه بأنه لقب "شيخ الإسلام" ابن تيمية!

 ولعلَّ الدارِس المحقق لا يستطيع أن ينفي الخلفيَّة الشيعيَّة عن السيد، رغم أن اعتقاده - قدس الله روحه - الذي تجلَّى في فكره وحركته قد تجاوز به المذاهب، وهو نموذج يتكرَّر كثيراً، ويتجلَّى أبرز أمثلته اليوم في الفيلسوف والعارِف: سيد حسين نصر. أما ما يجعلنا نُرجِّح "خلفيته" الشيعيَّة، فهي قرينة مهمة لا يلتفِت إليها الغالبيَّة؛ قرينة وثيقة الصلة بالطبيعة الغالِبة على أكثر نصوصه، وذلك بوصفها: "تقريرات دروس" ومحاضرات، لم يُدونها هو، وإنما دوَّنها عنه تلاميذه؛ فهي طريقة شاعت - وما زالت - في أوساط علماء الإماميَّة، أكثر مما شاعَت في أوساط العلماء السنَّة.

وتتجسَّد الإشكاليَّة الثالثة في إسقاط الدارِس والباحث لذهنيته التسطيحيَّة ومذهبه وإدراكه الاختزالي على البيئة التي كان يتحرَّك فيها الأفغاني، ومحاولة مساءلة هذه البيئة المركَّبة وفقاً لإدراكه الاختزالي اليوم. وهو ما يدفع جمهرة هؤلاء الباحثين إلى الإصرار على "اتهام" السيد بإخفاء "أصله"، اطراداً مع اختزاليتهم؛ لأنهم يتوهَّمون أن العثمانيين - مثلاً - لم يكونوا ليقبلوا به إن علموا "حقيقته"!

هذا الوهم الطهوري من الحُجُب الحداثيَّة الاختزاليَّة، التي عزَّزها شيوع المزاج الوهابي-الطهوري في التديُّن، وتأثر سائر "المذاهب" بهذا الوجدان وتشرُّبها له، حتى امتد الأمر إلى جمهرة من الصوفيَّة؛ فصاروا يُدرِكون أنفسهم بعيونه، ويُعبِّرون عن وجودهم باصطلاحه. هذا التديُّن الطهوري الاختزالي، الذي يسير في نفس الاتجاه الذي تسير فيه الحداثة ودولتها؛ ينفي الوجود عن كل من ليس على "مذهبنا"، بل ويسعى في إبادته، كما حاول "إخوان من أطاع الله" أن يفعلوا ببعض أهل العتبات في العراق، حتى أوقفهم عبد العزيز.

والحق أن أي باحث عاقِلٍ يُدرِك أن الدولة العثمانية، التي كان عمقها الاستراتيجي هو الأناضول (موطن كل حركات الغلو الصوفي- الشيعي في آسيا)، وكانت قوتها العسكريَّة الضارِبة (الانكشاريَّة) تتعبَّد على مذهب التصوف البكتاشي الشيعي، الذي اشتهر بشدَّة غلوِّه، ومزجه التصوف والتشيُّع بمؤثرات شامانيَّة؛ لن تُعاني كثيراً مع "مذهب" السيد و"جنسيَّته"، ما دام يحمِلُ دعواها للجامعة الإسلاميَّة وينصُر قضيتها مُخلصاً؛ فهو أولى بها من وزرائها وسفرائها المسيحيين واليهود!

وإن مثل هذه الحُجب الإشكاليَّة مجرَّد عينة مما يواجِهه الدارس أو الباحث الجاد، إذ يتناوَل هذه الحقبة المفصليَّة، التي التقى فيها التراث بالحداثة؛ فاصطدما صداماً عنيفاً كان السيد - قدس الله روحه - أهم تجلياته على الإطلاق - فكريّاً وسياسيّاً - خصوصاً لأنه جمع رسوخ القدم في التقاليد الإسلاميَّة إلى عمق إدراك الروح الحداثيَّة، مثله في ذلك مثل كثيرين ممن ظهروا في لحظات التغيُّر الفاصِلة في تاريخ هذه الأمة. بيد أن "اللحظة الجماليَّة" - إن جازت التسمية - كانت لحظة فارِقة ما زلنا نُعاني آثارها إلى اليوم - وإن غفلنا عن ذلك - إذ كانت لحظة انسحاب نور "النظام العالمي" للإسلام كُليّاً - بغير بديل - إيذاناً بتسلُّط ظُلمة "نظام عالمي" للشرك، وهو ما كان السيد شديد الوعي به، عظيم الشفقة منه، يعرِف وطأة ثقله، وكارثيَّة وقعه؛ حتى ليسأل قارئه: "كيف يمكن جمع الكلمة - بعد افتراقها - وهي لم تفتَرِق إلا لأن كلّاً عكف على شأنه؟!"، وهو ما سنُعالج إجابته في مقال لاحق. رحم الله السيد، وألحقنا به غير مفتونين.
__________
(1) راجع مثلاً مقدمة ترجمتنا لكتاب: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م)، القاهرة، وهو ماثِلٌ للطبع. 
(2) راجع مقالنا السابق على هذا الموقع نفسه: "من هو الأفغاني؟".

 

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)