هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل سنة من الآن، استفاقت الفنّانة التونسية زهيرة سالم على إشاعة وفاتها التي آلمتها كثيرا وجعلتها توجّه رسالة حادّة اللّهجة لصنّاع الأخبار الزّائفة. كان يُثقلها التفكير في الموت وهي التي ظلّت تغني إلى السّبعين من عمرها.
بعد مرور سنة، ينتشر خبر وفاتها الأحد 27 كانون الأول/ ديسمبر 2020 بالمستشفى العسكري بتونس العاصمة. ولكن الخبر هذه المرّة لم يكن إشاعة. الفنّانة التي كرّست حياتها في مراكمة التّجارب الموسيقية والغنائيّة، رحلت وبداخلها غضب كبير من التّجاهل والتّقصير وضياع حقوق التأليف، وغيرها من الإشكالات التي لطالما طرحتها صاحبة "يا أمي يا أمي" و"أعطيني شريبة لله".
رحلة زهيرة سالم بين الشغف بالفن والمرض
قضت زهيرة سالم عشر سنوات في معركة مع المرض، حاولت مرارا الانتصار عليه بشغفها للفنّ. لم تكن تودّ الرحيل قبل التعافي وإتمام مشاريعها أو إيجاد ألحان لكلمات عشقت أداءها. كانت لا تؤمن بالعمر والزاماته. كانت ترى الإنسان في طاقته التي تتغلّب على كلّ المصاعب وتتحدّى عَوز الجسد إلى عمر بيولوجي جديد.
لم تفارق زهيرة سالم المصدح، هذا الشريك الذي تبوح إليه بقصص حبّ كثيرة مع الأم، مع الحبيب، مع العالم، وتوقفت عن الغناء فقط خضوعا للعلاج، ولكنها لم تفارق الساحة الفنية. فظلّ ذات العطش وذات التدفق الإبداعي.
هذه الفنانة التي قدمت أكثر من 500 أغنية، اكتفت وزارة الثقافة التي يديرها حاليا بصفة مؤقتة وزير السياحة بتأبينها وإرسال بلاغ نشرته بعض وسائل الإعلام بوفاء تامّ. وفي الواقع وزير سياحة أو وزير ثقافة، فثقافة توديع المبدعين لا تختلف عن تقاليد من سبقه والشّعار المشترك: "إكرام الميت دفنه وإكرام المبدع دفنه، مع خدمة إضافية تتمثّل في تأبينه".
وأعتقد أنّ الفنان التونسي يتطلّع لهذه اللحظة التاريخية لتأبينه وتقدير مجهوداته، وقد يترك وصيّة لأهله يقول نصّها مثلا: "أطلب دفن نسخة من رسالة التّأبين معي".
يتوق بعض الفنانين لموكب جنازتهم؛ لأن الضامن الوحيد لشكرهم والاعتراف بهم مواراة الثرى. وغالبا ما يخطر ببالي أو يمر بذهني مشهد كالتّالي؛ "أنّ الفنان التونسي يموت وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة، بالضبط مثل تلك الابتسامة التي ربطها جبران خليل جبران بشرود الذهن. وقد تكون هذه الابتسامة سخرية من رسالة تلقاها مثلا المبدع قبل ثوان من رحيله من مسؤول مازال يسيّل حبره في الوعود الزّائفة، وقد فاته أنّ المعنيّ بالأمر في حالة احتضار".
يصل إلينا صوتها وهي تدندن بعض أغانيها في المستشفى العسكري، ويصل إلينا أمل الحياة وأغانيها مرددة بأصوات فنانين من الجيل الجديد.
زهيرة سالم التي ظلت لعشر سنوات تصارع مرضها، يوم 29 نيسان/أبريل 2020، عبّرت على أمواج إذاعة تونسية خاصّة أنها جد مستاءة من الصحفيين والإعلاميين والفنانين والمسؤولين الذين تجاهلوها.
سكن جسد زهيرة سالم وحلّقت روحها، تثير فيّّ ذات السؤال: أهكذا يُعامل المبدع في بلدي؟
السيدة نعمة: في الذّاكرة!
قبل أربع سنوات من الآن، جمعتني مكالمة هاتفية مع الفنانة التونسية الراحلة نعمة، كان الهدف من هذه المكالمة دعوتها إلى برنامج تلفزي لتكريمها، فدعتني هي إلى عالمها.
أذكر أني اتصلت بها وبي رهبة محاورة عملاقة من عمالقة الفن، وإذا بي أنهي مكالمتي معها وجملي متقطّعة تنفلت حروف كلماتي من شدّة الألم. حاولت إنهاء المكالمة بسرعةٍ حتى لا تُفتضح هذه الأحاسيس التي ربّما فهمتها شفقة مني على وضع فنانة حوّلت كلّ اللّيالي إلى أعياد، وأطفأت شموعا كثيرة وتقاسمت مع الكثيرين أُمنياتهم في أعيادهم.
لقد حدثتني السيدة نعمة عن تجربتها في الحصول على منحتها من الوزارة، التي لا تتعدّى المائتي دينار فقط. وحدثتني عن الطريقة التي تحصل بها على هذه الملّيمات. كان عليها وهي في حالة صحية حرجة جدا أن تتواصل مع مكتب العلاقات مع المواطن بوزارة الثقافة، حتى يحوّلها إلى مكتب آخر ومنه إلى أن تصل إلى المسؤول، وبعد الشقاء والتعب قد يخبرها هذا المسؤول ببرود شديد أن المنحة لم تُصرف بعد، ولا يُكلّف خاطره حتى الاطمئنان على حالتها الصّحية.
وفي الواقع، لا يمكن لوزارة ثقافة تخنق المبدعين بغياب الإجراءات الحاسمة في حقوق التأليف والتّعاطي مع حقوق المبدعين، وكأنّها مساعدات اجتماعية، لا يمكن لمن يخنق المبدع أن يخلق إبداعا.
وجدير بالذكر أن الفنانة التونسية نعمة غادرتنا قبل أشهر قليلة، ولم يتغيّر شيء في وضعيتها منذ مكالمتي معها قبل أربع سنوات. لم يكن من نصيبها غير بعض المجاملات في شكل تكريمات وصور للذاكرة.
صليحة: هربت من المستشفى من أجل الأغنية التُونسية... ولكن!
رحلت الفنانة التونسية صليحة التي كانت تُلقب بأمّ كلثوم تونس في خمسينيات القرن الماضي، وقد ذكرت جريدة النّداء التّونسية التي كانت تصدر آنذاك، أنّ الفنانة صليحة قبل ستّة أيّام من وفاتها هربت من المستشفى، فقط حتى تكون ممثّلة تونس في أول مهرجان مغاربي في الأغنية، الذي تم تنظيمه في المسرح البلدي بالعاصمة.
تذكر جريدة النّداء أنّ الفنانة صليحة وقفت آنذاك على المسرح متعبة منهكة جدا، حتّى إنّها غنت لآخر مرة فوق المسرح، وكانت تحاول جاهدة الوقوف وغنت "مريض فاني" وهي تمسك بكرسيٍ حتى لا تقع أرضا. غنّت بكل شغف ورغبة في تألق الأغنية التونسية في المهرجان المغاربي، حتى إنّ بعض النقاد قالوا: "لا نعرف هل غنت يومها صليحة، أم بكت لشدة ما غنتها بصدق ".
صليحة التي أهملت نصائح الطبيب وغادرت المستشفى قبل التعافي ودفعت حياتها ثمنا للأغنية التونسية، تعرضت أيضا لمظالم كثيرة ورحلت وهي مسلوبة الحقوق، وإلى اليوم لا نعرف من أشكال الاحتفاء بها إلا تلك المناسبات التقليدية لتعبئة برمجة ثقافية، يُعدّها إداريون لا مبدعون.
هكذا يرحل عمالقة الفن في تونس في ظلّ الجحود والنكران والأمثلة كثيرة.