قضايا وآراء

حول التطبيع ومركزية القضية الفلسطينية

عصام يوسف
1300x600
1300x600
تلح علينا الأصوات المنادية أخيرا بتراجع أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب والمسلمين، وفقدانها لمركزيتها بالنسبة للأمة، والتي لم تكن لتعلو سوى لتزامنها مع مرحلة استثنائية، وزمن تعيش فيه الأمة واحدا من أقسى ظروف ضعفها وتشرذمها، لدرجة وصل معها البعض لإضاعة كينونته بعدما ابتعد تائها في تفسير تاريخه وهويته.

وتتوجب علينا أمام محاولات التشويش على مكانة القضية الفلسطينية في الوعي والوجدان العربي والإسلامي؛ مهمة التذكير بحقائق وثوابت تتعلق بها، بهدف تثبيت حالة الوعي الحقيقي في أذهان الأجيال، بغية تشكيل سد عقلاني يمنع مرور الأفكار التضليلية الساعية لتكوين وعي زائف، يستهدف إعادة تشكيل وعي وهوية الأمة بما يخدم توجهات سياسية ضيقة، سيلفظها المستقبل، بإيعاز من الفهم الأمين والواعي لحركة التاريخ، بكل الأحوال.

يدرك المتتبع لتاريخ القضية الفلسطينية حقيقة تلازم مركزيتها بالنسبة لقضايا الأمة العربية، وما تمثله الحركة الصهيونية من مخاطر على حاضر ومستقبل الأمة وليس فلسطين فقط، بشكل متواز مع حالة النهوض القومي العربي منذ بدايات القرن الماضي، زاد من جذوتها تصاعد النضال الوطني الفلسطيني، وتجذر المبادئ القومية والإسلامية في وجدانيات العرب والمسلمين تجاه فلسطين ومقدساتها.

"النكبة" وإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، وما تلاها من أحداث، وصولا لحرب حزيران/ يونيو عام 1967 التي استولى فيها الصهاينة على مزيد من الأراضي العربية، وكامل فلسطين التاريخية، كثّفت من حالة الوعي العربي بأن القضية الفلسطينية تترسخ كقضية العرب المركزية، يرتبط بها مصيرهم، لتسود القناعة منذ ذلك الحين بأن العدو الصهيوني يعد خطرا يهدد العرب من محيطهم إلى خليجهم، كما يهدد مستقبلهم وهويتهم وحضارتهم، بل ووجودهم.

دفعت القناعات بمركزية القضية الفلسطينية، والإيمان المطلق بعدالتها، الشعوب العربية على مر الأجيال إلى الانخراط مع أشقائهم الفلسطينيين في النضال من أجل تحرير الأرض المغتصبة، على اختلاف مشاربهم، وفكرهم السياسي، وباتوا ينادون باسترداد الحقوق، وتقديم مختلف أشكال الدعم المالي والسياسي للشعب الفلسطيني. وربما نذكر في هذا الصدد شعارا رفعه الأشقاء الجزائريون يختزل "مطلقية" الدعم للشقيق الفلسطيني، والمتمثل في "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، مع يقينهم المترسخ بأن فلسطين تعاني الظلم التاريخي من الطامعين من شذاذ الآفاق.

يترافق مع ذلك مشاعر دينية تشكل فكر ووجدانيات كل مسلم، حيث تعتبر فلسطين جزءا من عقيدة المسلمين، وتاريخهم، بل تشكل جزءا من تاريخ الرسالة المحمدية، من خلال ما قام به النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وما دعا إليه، أو حث عليه، ومختلف ما صدر عنه قولا وعملا، ما أسبغ القدسية على البقعة الجغرافية، والعديد من الأماكن التي اكتسبت خصوصية في حجم قدسيتها.

مباركة الأرض في فلسطين، قرار رباني يحمل الكثير من الدلالات والمعاني، تجلى في أبهى صوره بالإسراء والمعراج، فاختيار البارئ جل وعلا لبيت المقدس ليكون تجسيدا لإحدى المعجزات الإلهية، يعد تكريما للأرض أولا، ثم مباركة وتطهيرا وتقديسا لها، وإظهار لعظمة الخالق، حيث يقول - سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ".

وبحسب تفسير ابن كثير – رحمه الله - للآية الكريمة، فالخالق جلت قدرته "يمجد نفسه ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره ولا ربَّ سواه".. "الذي أسرى بعبده" يعني محمدا (صلى الله عليه وسلم)، "ليلا" أي في جنح الليل، "من المسجد الحرام"، وهو مسجد مكة، "إلى المسجد الأقصى" وهو بيت المقدس، الذي ارتبط بالعديد من الأنبياء، وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم الخليل - عليه السلام - ولهذا جمعوا له هناك كلهم، فأمّهم في محلتهم ودارهم، للدلالة على أن النبي محمد هو الإمام الأعظم، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، إضافة لاستمرارية رسالة التوحيد التي جاء بها الأنبياء كافة.

وفي هذه المعجزة عبرة أخرى مستفادة، ففلسطين ببيتها المقدس يؤم بها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أنبياء الله ورسله الذين بلغ عددهم مئات الآلاف -عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم - ولم يحشرهم ببيته الحرام المشرّف المكرّم، من باب الإشعار بأهمية هذه البقعة من الأرض لرب العالمين سبحانه تعالى، وإبلاغا لنبيه محمد الذي خاطبه الله: "قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" برسالته - سبحانه وتعالى - الواضحة، ومفادها بأن المسجد الأقصى المبارك كان قبلتك يا محمد وقبلة أنبيائي من قبلك، فلتجعله أمانة لأمتك إلى يوم القيامة.

قدسية فلسطين التي تعد معجزة الإسراء رمزية لها، يشدّد عليها البارئ - سبحانه وتعالى - في مواضع عدة من كتابه العزيز، لتكثيف الدلالات على أهميتها ومكانتها لدى المسلمين، حيث يقول في أحد هذه المواضع: "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ".

والآية تشتمل على خطاب موسى - عليه السلام - لقومه بدخول الأرض المقدسة، وفيها دليل على أن القدس وفلسطين مُقَدَّسة في الأزل، قبل أن يَحِلَّ بها قوم موسى؛ لأن وجود المسجد الأقصى في القدس بفلسطين قبل حلول بني إسرائيل في فلسطين، وقبل أنبياء بني إسرائيل الذين يزعم اليهود وراثتهم، كما ترد فلسطين في العديد من النصوص القرآنية كأرض مقدسة ومباركة عند سرد قصص الأنبياء، سواء الذين مروا أو أقاموا بها، أو دعوا فيها، أو دفنوا بها، تثبيتا لهذه المكانة من الله سبحانه وتعالى.

وتمتد قدسية المكان لتشمل تراتبية المساجد والبقاع المقدسة لدى المسلمين، فقد بُني المسجد الأقصى بعد بيت الله الحرام أول مسجد وضع للناس بأربعين عاما، هذا المسجد الذي كان أولى القبلتين، ونال المنزلة الثالثة في القدسية بعد المسجد الحرام ثم المسجد النبوي، وأطلق عليه لذلك ثالث الحرمين، ويؤكد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) على تعزيز هذه المكانة الدينية، بقوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".

يضاعف من قدسيتها انتقاؤها لتكون أرض الرباط، فالبشرى التي يزفها الرسول الكريم قبل أكثر من ألف عام بالنصر على الغزاة والمحتلين، بشريطة أن يُقرن ذلك بالرباط فيها والجهاد، والدفاع عنها، وتحريرها إذا سقطت في أيدي الغزاة كأرض محتلة، وفي نص الحديث النبوي الذي رواه أبو أمامة الباهلي، ما يؤكد على جزئية الرباط في بيت المقدس، ووعد ونبوءة التحرير، حيث يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم (أو خالفهم)، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".

حسابات مركزية فلسطين بالنسبة للأمتين العربية والإسلامية، لا تتوقف عند ما تحمله من معان وقيم إسلامية، ووعد رباني فقط، إلى جانب الانتماءات القومية للشعب الفلسطيني لأشقائهم في الدم واللغة والعرق الواحد، حيث تتجاوزها إلى أهميتها بالنسبة للأمن القومي العربي، لا سيما وأن العقلية الصهيونية تقوم على التوسع واحتلال أراضي الآخرين، ونهب ثرواتهم.

ولعل عدم وجود حدود مرسّمة لدولة الاحتلال بعد عقود من إعلان قيامها يثبت أطماعها على الأرض، كما أن ما يجري اليوم من تسخيرها لكافة الظروف بهدف إضعاف الدول القُطرية العربية والهيمنة عليها؛ لهو الدليل الأكثر وضوحا لتهديدها المستمر للأمن القومي العربي.

ولعل الكثير قيل في "وظيفية" الكيان المصطنع، والذي زُرع في قلب الأمة العربية، ليمنع أي شكل من أشكال الوحدة، والتعاون الحقيقي، والتكامل فيما بينها، لمنع نهوضها، وإبقاء المنطقة في حالة عدم استقرار، حتى يتم للدولة العبرية الوصول لحالة التحكم والهيمنة على البلاد العربية الغنية بمصادر الطاقة، وبالتالي ذوبان حضارة وهوية أمة بأكملها تمتد من المحيط إلى الخليج في تفاصيل سردية الخطاب الصهيوني الذي يزيف التاريخ، ويقلب الحقائق، بدعم من صانعيه في الغرب الرأسمالي، الذي ينظر إلى شعوبنا بمنظاره المادي، "المؤدلج" على أساس التفوق التكنولوجي والثقافي والعرقي، وغير ذلك.

دخل الفلسطينيون، ومعهم الأحرار من أبناء الأمتين العربية والإسلامية مرحلة مواجهة من "جابههم" و"خالفهم" بحسب الحديث النبوي الشريف، بموازاة نضالهم ضد عدوهم وعدو الأمتين العربية والإسلامية، ولعل هذه المعركة هي الأكثر صعوبة في تاريخ القضية الفلسطينية، كونها تستهدف تصفيتها، وشرعنة سلب حقوق الفلسطينيين، وتكريس الاحتلال، وبيع هوية وروح الأمة لأعدائها والمتربصين بها، وتسليم مفاتيح المدن والحواضر العربية لمن لا يرقبون في الأمة إلا ولا ذمة.

إثارة الجدل في مسألة مسلّم بها كمركزية فلسطين وقضيتها بالنسبة للعرب والمسلمين، يهدف إلى العبث بالعقائد، والتلاعب بالعقول والأدمغة بغية غسلها، كخطوة مسبقة لتسويغ المضي في المخططات والصفقات الهادفة لإنهاء القضية الفلسطينية، وتدجين شعوب المنطقة بما يتواءم مع العصر "الصهيو- أمريكي" الجديد، الذي ينفرد فيه الكيان الصهيوني بمهمة المسيّر لشؤون المنطقة ودولها، والاستحواذ على "مركزية" التفرد الاقتصادي والسياسي فيها.

معركة اللاهثين وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني في المحاججة في "مركزية" فلسطين وقضيتها بالنسبة للعرب والمسلمين، خاسرة لا محالة، وسباحة في عكس تيار التاريخ، ومنظومة القيم والمبادئ القائمة على أساس العقيدة الإسلامية، ولن تلغي ذلك حقيقة ارتباط المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بهذه الأرض المباركة ارتباطا عقديا، وليس ارتباطا يتم التعبير عنه بشكل عفوي وانفعالي، أو موسمي ومؤقت، بل هي مسؤوليات دينية وأخلاقية وسياسية ليست الأمة معفية منها بأي حال من الأحوال.
التعليقات (0)