أمريكا وليبيا.. لا تزحف حين يجب أن تطير

"أعتقد أن الولايات المتحدة تقوم حالياً بالعديد من الأدوار، بما فيه الكفاية، في أماكن مختلفة من العالم".. كان هذا تصريح الرئيس الأمريكي في نيسان/ أبريل 2017م ردا على رئيس الوزراء الإيطالي باولو جينتلوني وقتها (2016-2018م)، حين طلب منه وضع المسألة الليبية في الاهتمام الأمريكي والقيام بدور حاسم. لكن "المؤسسة" في القرار الأمريكي لا زالت فاعلة رغم وجود رئيس أمريكي يعمل صراحة "ضد المؤسسة".

ليس هذا فقط بل ويتعامل مع المسائل الاستراتيجية بسطحية وانطباعية وخفة لا تحتمل، إذ بعد مرور عام بالتمام والكمال على هذا التصريح وفي أيار/ مايو 2018م التقى قائد قوات الأفريكوم (القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا) رئيس حكومة الوفاق فائز السراج في طرابلس، وتم التباحث بشأن إمكانية تقديم قوات الأفريكوم الدعم اللوجستي اللازم لتأمين إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة.

لن يمر شهران على هذا اللقاء إلا وسيتم تعيين "ستيفاني ويليامز" نائبة للمبعوث الأممي غسان سلامة، صاحب الخطوات المتعثرة والمعروف بقربه من بعض الدول الداعمة لحفتر.. لكن من هي ستيفاني؟ إنها الشخصية الثانية في السفارة الأمريكية بليبيا، ومنغمسة في الشأن العربي من يومها الأول، وتتقن العربية وحاصلة على الماجستير في الدراسات العربية من جامعة جورج تاون.. خبرة احترافية تبلغ ربع قرن. سنعرف أنها غردت مرحبة باتفاق 21 آب/ أغسطس الأخير، بعد 10 دقائق من إعلانه المتزامن من السراج وصالح.

* * *

التبست أوروبا (فرنسا وإيطاليا وألمانيا) واضطربت تجاه ملف ليبيا، وهو ما التقطته تركيا فورا، فذهبت مع روسيا في الطريق العام وتركتها في الأزقة والحواري، وذهبت إلى أمريكا من خلال الناتو لتقول بوجوب سد المنافذ أمام أي محاولات روسية لممارسة دور فاعل على الحدود الجنوبية للحلف (حوض المتوسط). وكان قرار اليد الثقيلة، وكان الاتفاق الشهير في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 (بالتعاون الأمني والعسكري وتحديد مناطق الصلاحية البحرية).

* * *

"آن أوان سكوت المدافع، فالحل في ليبيا الشقيقة سياسي بامتياز وعبر الحوار الجامع والذي تؤطره المرجعيات الدولية والإقليمية المتفق عليها".. قائل هذه العبارة يمثل البلد الذي دعم.. بل وطلب من حفتر رفض حوار غدامس (آذار/ مارس 2018م)، وهدم إحدى أهم العواصم العربية فوق رؤوس أهلها والتنكيل بهم، وحين طال مطاله وعجز مناله.. أعطته روسيا وتركيا (السلم لينزل من فوق الشجرة)، وذلك بعقد مؤتمر موسكو في 13 كانون الثاني/ يناير الماضي لوقف إطلاق النار وليبدأ الحل السياسي.. سنتذكر أن هذه البلد أمره أن يغادر موسكو بدون أي توقيع، وهو ما تكرر في برلين.

* * *

ثم ليتم بعد كل ذلك وضع الشيء في الحيز الذي يجب أن يكون فيه، وتبدأ سلسلة الاكتساحات الكاسحة من مدن الساحل الغربي إلى قاعدة الوطية إلى ترهونة إلى أبواب سرت، سيقول السراج لهم: مدرعاتكم التي بعثتم بها صارت رمادا، وما سلم منها صار في قبضتنا، ونحفظها في متحف الحرب لتظل شاهدا على غدركم، وستلعنكم الأجيال مدى الدهر.

كل الأطراف المنغمسة في الصراع الليبي يستطيع أي باحث مبتدئ في السياسة الدولية أن يبرر انغماسها المدفوع بالمصالح الاستراتيجية والأبعاد الأمنية، وغير ذلك مما هو معروف ومفهموم (روسيا- فرنسا- ألمانيا- إيطاليا- تركيا- مصر)، إلا بلدا واحدا فقط، لا يفهم أحد ما هي المصلحة الحساسة/ الحيوية/ الاستراتيجية.. اكتب أي وصف بعد كلمة "مصلحة"، ليبرر ويوضح موقف هذا البلد الذي سيتحير التاريخ والمؤرخون كيف يصفونه.

وبعد أن أصبحوا على صورتهم الأخيرة، يأتي متحدثهم من كهفه الاستراتيجى ليقول: الشقيقة! وحل سياسي بامتياز! وتؤطره المرجعيات.. وهاكم أصبحتم كما يقول جرير: "ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود".

أتصور أن أحد أسباب التطبيع الصاخب الأخير مع إسرائيل (التي تُكتب قصة نهايتها!) هو إنقاذ الفيلد مارشال حفتر من "فضيحة قرنه"، وليس إنقاذه شخصيا، فشخصه لا يعنيهم في أب شبء، ولكن إنقاذ "الحالة" التي تكونت حوله.

ماذا سيكتب التاريخ ليصف مشهد التطبيع اللهوف مع عدو على عتبة نهايته، لإنقاذ رجل وموضوع انتهت حكايتهما، ثم تذهب لإجراء مناورات مع اليونان وأنت لا تستطيع حماية سفينة لك في الخليج العربى.. إقبال منقطع النظير على التفاهة والبلاهة والشر المجاني.

* * *

يقولون إن أمريكا ومصر وتركيا كانت وراء التحركات الأخيرة بشأن ليبيا، ويقولون إن الموضوع تم خلال ساعات، بعد أن تزايدت حشود حكومة الوفاق حول سرت وأصبحت المعركة قريبة جدا، وعليه فسيكون موقف مصر وتركيا دقيق للغاية، لكن السياسة احتلت كل مقاعد التفكير وكتبت الاتفاق الأخير.

أسبوعان استغرقهما الاتفاق الأخير (من 7  إلى 21 آب/ أغسطس)، وهي مدة قصيرة بالإشارة إلى عمق وحجم الأزمة الليبية، فبدأت التحركات الأمريكية تأخذ شكلا نشطا ومتسارعا. وكما يقولون يجب أن لا تزحف حين يجب عليك أن تطير. وقد كان، فها هو ميجيل كوريا، مدير مجلس الأمن القومي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والسفير الأمريكي في ليبيا نورلاند، وبالطبع معهم الشخص الضروري (ستيفاني ويليامز) للدفع باتجاه خطوات ملموسة وعاجلة بشأن ليبيا.

وفي مساء الجمعة (21 آب/ أغسطس)، أعلن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج، ورئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح بشكل متزامن وقفا شاملا لإطلاق النار بكافة الأراضي الليبية، واستئناف إنتاج النفط وتصديره، وتجميد إيراداته في حساب خاص بالمصرف الليبي الخارجي ولا يتم التصرف بها إلا بعد التوصل إلى تسوية سياسية وفق مؤتمر برلين، وبضمانة البعثة الأممية، إضافة إلى نزع السلاح من مدينة سرت الاستراتيجية المتنازع عليها، وأخيرا إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ربيع 2021م.

الدنيا كلها تقريبا رحبت بالاتفاق، لكن ترحيب أمريكا كان مختلفا قليلا، إذ رحبت السفارة في طرابلس ببيانات البعثة الأممية والسراج وصالح، لكنها قالت جملة بالغة الأهمية وتكفي للغبطة اللغبطان كما يقولون: "أنه سيكون لدى الولايات المتحدة المزيد لتقوله قريبا".. وعلى الجميع أن يعيد حساباته ألف مرة ومرة تحسبا لهذا المزيد القريب. أيضا الرئيس المصري رحب فورا بالاتفاق، وكذلك فضيلة شيخ الأزهر الذي قال إنه بداية مبشرة على طريق السلام في هذا البلد الشقيق الذي عاني كثيرا من آثار الفرقة والانقسام والتدخلات.

سنتذكر قول "محمود درويش" رحمه الله وهو ينعى الخلاف بين حماس وفتح في غزة عام 2007م، وكل حماس وكل فتح، في كل وقت ومكان بعالمنا العربي الذي شقي كثيرا بخلافات وصراعات أبنائه.. يقول درويش: ما معنى كلمة وطن؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبزو السماء الأولى.. وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من "ثلاثة أحرف" لكل هذه المحتويات، وتضيق بنا؟