هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ناقشت في مقالي السابق سريعا بعض أسباب خلع الحجاب، وتركت سببا مهما من الأسباب التي تؤدي لخلعه، وهو: التشدد، سواء كان التشدد مبنيا على أسس دينية، أم أسس عائلية وقبلية، فالحجاب واجب شرعي، تقوم بارتدائه المسلمة تنفيذا لأمر دينها به، وليس لعلة التقاليد والعائلة والناس.
ومن خلال عملي بالدعوة إلى الله لسنوات طويلة، رصدت عدة مواقف تبين التشدد كسبب مهم لخلع عدد من المحجباب لحجابهن، سواء كان التشدد ممن ارتدت الحجاب، أم من البيئة المحيطة بها، أم من المشايخ الذي يدعون إلى الحجاب، أم من المتدينين الذي يعبرون عن الدين بطريقة خطأ، فيؤدي ذلك إلى نفور الناس من التدين.
ولنبدأ بتشدد المحجبة نفسها.. فبعض الحالات تدخل عالم التدين، وقد كانت قبل تدينها تفعل ما تريد، وافق الشرع أم خالفه، وعلى رأس ذلك اللباس الصارخ في ثيابها، ثم يشرح الله صدرها للتدين، هذا كلام جميل، لكن عددا منهن لا يرزقن بمن يمارس معهن الدعوة بالحكمة، فتريد أن تفعل في يوم أو أسبوع ما كانت تفعل عكسه طوال حياتها، من (ميك أب)، وثياب، إلى النقيض تماما، فيحدث ذلك تشددا زائدا عن الحد، يصل للتطرف أحيانا في الرأي والعمل، فكانت متطرفة في تركها للتدين، ثم أصبحت متطرفة في التدين، ثم بعدها تصاب بحالة إحباط لأي سبب ما، فترجع كما كانت وأكثر مما كانت للأسف.
وهي حالة تحدث مع كثيرين من المتدينين الجدد، أو المتدينات كذلك، تبدأ تتدين، ثم تصلي، ثم تكثر من النوافل بما لا تطيق، ثم تذهب لحفظ القرآن بكثرة، كل ذلك خير، لكنه لن يستمر، لأن البادئ بدأ به بما لا يطيق، فما يحدث أنه يمر أسبوع أو أكثر، ثم مستوى الحفظ للقرآن يقل، وربما يفتر تماما، ولذلك اشتهر الأثر القائل: إن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى.
وكانت تشريعات الإسلام تأتي بالتوسط، وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم حينما رأى حبلا مربوطا بين عمودين في المسجد، فسأل عن ذلك، فقالوا: إنه حبل لزينب تصلي، فإذا تعبت تعلقت به، فنهى عن ذلك، وأمر أن يصلي الإنسان ما وجد نشاطا، فإذا تعب نال قسطا من الراحة، والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كان لا يكثر من المواعظ مع صحابته، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهية السآمة علينا. أي: يقول لنا موعظة قصيرة، وكل فترة، وهو من لا يمل أحد كلامه صلى الله عليه وسلم، ولكنها النفس البشرية التي يجب أن نراعيها في كل شيء.
وقد تكون حالة التشدد من البيت الذي تنشأ فيه المحجبة، فيكون كل شيء بالأمر، لا مكان للإقناع، ولا للحوار، ولو فتحت الفتاة فمها وسألت: لماذا نرتدي الحجاب؟ مثلا، لوجدت ردا قاسيا، رغم أن الفقهاء ناقشوا طويلا في كتبهم: هل أحكام التشريع معللة أم لا؟ ومال الكثيرون إلى أنها معللة، فكما علل الله عز وجل الخلق فقال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فلا بد أن تكون أوامره كذلك لها علة وحكمة، سواء عرفنا هذه الحكمة أم لم نعرفها. وعندما تجد الفتاة فرصة تملك فيها القرار، تقوم بخلعه، لأنها لم تلبسه عن قناعة، ولا عن قرار منها.
قد يكون التشدد من الخطاب الديني الذي يقوم به مشايخ عن الحجاب، فيحدث نوعا من النفور منه، ليس نفورا من طاعة الله، بل نفورا ممن يدعو إليها، لفظاظة أسلوبه،
وقريب من هذا السبب: من ترتدي الحجاب لسبب شخصي، كحب، أو زواج، فهناك نساء ارتدين الحجاب تلبية لرغبة خاطب، أو رغبة حبيب، أو زوج فيما بعد، ثم بعد أن تغيرت العواطف، كان خلع الحجاب تعبيرا عن قطع آخر ما تبقى من علاقة مع من كان سببا لارتدائه. وهو ما نلاحظه في بعض حالات المسلمات الجدد ممن تسلم، ثم ترتدي الحجاب، تجد أول ما تفعل بعد الانفصال عن الزوج العربي المسلم: خلع الحجاب!
وقد يكون التشدد من الخطاب الديني الذي يقوم به مشايخ عن الحجاب، فيحدث نوعا من النفور منه، ليس نفورا من طاعة الله، بل نفورا ممن يدعو إليها، لفظاظة أسلوبه.. وقف أحد الدعاة المعروفين يقول عن كشف وجه المرأة، وليس كشف شعرها: إن جزاء كاشفة الوجه عند الله ككاشفة الفرج!!
وفي الوقت الذي كنا نرى فيه نساء غير محجبات، كنت أرى بعض إخواننا من الدعوة السلفية، مع قريبات لنا، ندير الحوار عن الحجاب، فأرى الأخ الكريم يتحدث عن النقاب، وكنت أقول لهم: نحن نحاول النقاش في الحجاب غطاء الرأس، فتذهب معهن بعيدا إلى غطاء كل البدن؟ كيف هذا، فلا يوجد أولويات في الخطاب، ولا مراحل فيه عند بعض الدعاة، فإذا كانت المحجبة كغيرها في وجهة نظره، فلماذا نرتدي الحجاب من الأساس، ولن نفكر في النقاب مهما قال لنا هذا الداعية؟!
ومن حالات التشدد التي لا بد أن نقف معها طويلا، هي نظرة بعض المحجبات اللاتي لا يفقهن موقف الشرع من شكل الحجاب، فالمحجبة المتدينة المصرية تنظر للحجاب على أنه الخمار المصري، الطويل الذي ينزل لأسفل جسدها، وهذا لا مانع منه، وخير وبركة، لكنه ليس الحجاب الذي إذا لم تلبسه المرأة صارت غير محجبة.
كنت أرى بعض الأخوات المتدينات، تمشي طويلا مع فتاة تدعوها إلى التدين، ثم تعلن أنها يئست منها ولا خير فيها، لماذا يا أختاه؟ تقول: لا تريد أن ترتدي الحجاب، فأنظر إليها أجدها محجبة كما أمر الشرع تماما، بكل ما تعنيه كلمة الحجاب الشرعي، فهي ترتدي حجابا مصريا، تغطي كل شعرها، ورقبتها، وثيابها واسعة، وسميكة، ولكن بعض الأخوات وضعن تصورا معينا للحجاب، هو ما ترتديه ومثيلاتها في الجماعة، أو نساء الصحوة الإسلامية، وما عدا ذلك فليس حجابا.
وبالتالي تم النظر إلى أمهاتنا، وأخواتنا في الريف، ولباسهن جميعا ـ في الغالب ـ ينطبق عليه شروط الحجاب الشرعي، أنهن غير محجبات، وتم نقل هذا النظرة والرأي إليهن، فلم يقف التشدد عند بعض المشايخ، بل تسرب للنساء في نظرتهن للأخريات.
وهي نقطة جديرة بالتأمل، فلا يوجد (ماكيت) ولا تصميم معين للحجاب في الشرع، إنما يوجد مواصفات، وكل بلد، وكل مكان يلبس ما يليق به، وما يتناسب مع عاداته وتقاليده، سواء من حيث التفصيل، أو من حيث اللون، أو من حيث الشكل، فمن الطبيعي أن التركية لن تلبس حجابا كالمصرية، ولا السورية كالخليجية، وهكذا، وهذه من مساحات المرونة التي يتيحها الإسلام، ولكن يضيقها البعض، بحصر الإسلام في قالب عاداته وتقاليده هو، ثم يزعم أن ذلك هو الحجاب الذي لا يقبل غيره!!
ولم تتغير هذه النظرة إلا منذ سنوات قليلة، بعد أن خرجت كثيرات من الأخوات المصريات خارج مصر، ورأين أحجبة أخرى، من نساء لا تقل إحداهن تدينا عنها، وفهمن أن المسألة مرتبطة بعرف لا أكثر، وهو ما كنا نقوله لهن، ولرجالهن، ولكن للأسف كان ينظر إلينا على أننا نشجع على عدم الالتزام بالحجاب!
لا يفوتني التنويه هنا: إلى أنني أناقش أسباب خلع الحجاب، لا إقرار خلعه، بل نبحث عن الأسباب، لنضع الحلول والعلاج المناسب، فلكل حالة سبب، ولكل عائق ما لا بد من إزالته، سواء كان نفسيا، أم اجتماعيا، أم شرعيا، أم شخصيا. وأن الأسباب ليست واحدة، بل مختلفة، وكل حالة لها ظروفها.
[email protected]