قضايا وآراء

حكاية من حكايات الغدر والهجانة.. لكنها التاريخ!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
".. آمنّا بك فقد حررتنا من الفزع والخوف.. سر بنا إلى الأمام ونحن جنودك".. كانت هذه كلمات من خطبة ألقاها الزعيم الخالد مرحبا بالقائد البطل اللواء محمد نجيب في قريته "بنى مر"، وذلك حين قام بزيارة لصعيد مصر ورأى اللواء نجيب أن يزور قرية "جمال" إكراما له ولأسرته.. لكن الجندي خان قائده وغدر به وأهانه وجرعه ذل الدهر كله، هو وأسرته وعائلته، بكل القباحة والهجانة والغثاثة والبعد عن الصواب.. إذا استعرنا تعبيرات سيف الدين الآمدى في كتابه المراجحات.

وحتى كتابة هذه السطور لم يفهم أحد ولم يعرف أحد لِمَ كان كل هذا التنكيل والإيذاء والإهانة البالغة لقائد الحركة المباركة.. أما كان أسهل على الزعيم الخالد هو وزملائه المحترمون الشرفاء من عزل الرجل بكرامة تليق بالوطن والثورة وبتاريخه الشخصي كجنرال كبير، ومعاملته كرئيس جمهورية سابق، بكامل حقوقه ومخصصاته تحت حراستهم ومراقبتهم؟..

ونجيب أصلا بطبيعته وخبراته كان سيفهم، وسريعا تم استخدامه وتوظيفه لأداء دور محدد.. وهو قد أدى الدور وانتهى الموضوع، وعليه أن يغادر خشبة المسرح. فقد كان مجرد وجوده (وحيدا) كقائد عسكرى كبير (لواء) بين مجموعه من الضباط صغار السن والرتب كان يوحي بالريبة والقلق، وضرورة أخذه بالحيطة والحذر، فهم أقرب لبعضهم البعض بكل أسباب القرب، تنظيميا وفكريا وأخلاقيا ونفسيا.

يقولون عن اللواء محمد نجيب (1901 – 1984م) إنه كان يمعن في التواضع بلا سبب، سريع الثقة بالآخرين بلا سبب أيضا، ولديه عزوف طبيعي عن المكر والخداع، طيب القلب.. سليم النية.. صافي الطوية.. وهو ما قد يفسر سرعة التفاف المصريين حوله بسمرة وجهة الأبوية الحنونة، حتى أن الزعيم الخالد كان يدق بقبضته على مكتبه من الغيظ ويقول لمن حوله: لقد استطاع أن ينسي المصريين النحاس.. وكانت زعامة النحاس وشعبيته بالطبع مضرب الأمثال وتكاد تقترب من زعامة سعد زغلول وقتها.

في آب/ أغسطس 1984م رحل أول رئيس لجمهورية مصر (حزيران/ يونيو 1953 إلى كانون الأول/ ديسمبر 1954م)ـ بعد ثلاثة سنوات من حكم "حسني مبارك"، والذي شيّعه في جنازة عسكرية كرئيس جمهورية سابق، ليقول للمصريين إنه ليس ناصرا وليس السادات، كما كان يقول في المؤتمرات الصحفية في أول سنة لحكمه.. أقول ذلك وأشير إلى أن خلق "الوفاء" لم يكن من أخلاق مبارك، ولم تعرف عنه هذه الصفة أبدا حتى تجاه أبويه. ومشهورة تلك القصة التي رواها وزير الإسكان الأسبق المهندس حسب الله الكفراوى عما فعله مع قائده ومعلمه الكبير في سلاح الطيران "الفريق مدكور أبو العز"؛ الذي أغلق مبارك التلفون في وجهه حين كلّمه كأستاذ وقائد سابق له، ومن ينسى إصراره على وضع الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب أكتوبر 1973م، في السجن، ومن ينسى ما فعله مع المشير عبد الحليم أبو غزالة.

حسنا فعلت السلطة الحالية باستدعاء اسم الرئيس الراحل محمد نجيب إلى ذاكرة المصريين، بإطلاق اسمه على منشاة عسكرية هامة، وهو حدث قبلا مع الفريق الشاذلي والفريق الجمسي، وكبار القادة الذين تم إهمالهم وتجاهلهم عمدا وقصدا، وهو ما لاقى احتراما وترحيبا من المصريين.

"رد الاعتبار" للقادة والأبطال موضوع ذو قيمة بالغة وفائده حقيقية، ليس فقط كونه تاريخا موضوعيا، ولكن وهو الأهم: تاريخا أخلاقيا، إذ ستتكشف لنا الحكايات كلها، وتوضع على نصل سكين حاد لنعرف الشريف من الخسيس، والوفي من الغادر، والنبيل من الدنيء، ومن كان بطلا حقيقيا ومن كان بطلا من الكارتون.

ستقول لنا ملفات رد الاعتبار إن الظلمات الحالكة في تاريخ الزعيم الخالد لم تكن فقط أخطاؤه السياسية والقومية الكبرى في حق الشعب والوطن والأمة كلها، بل كانت فجره وإمعانه في الظلم والافتراء، وتلفيق التهم الأخلاقية والسياسية لمن يجرؤ على الاختلاف معه. وكان الإذلال والإهانة هما الحد الأدنى من ثاراته المريضة تجاه خصومه الشخصيين، وأصبحنا أمام ديكتاتور مريع لا يتورع عن استخدام سيف الظلم للنيل من خصومه، وكتب بأفعاله هذه تاريخا للثورة ولمصر في عهده لم يكن في حقيقته إلا تاريخ "رغباته الشخصية"، كما يقول المفكر الروسي المعروف "ألكسندر كوجيف"، في شروحه لكتب الفيلسوف الألماني هيجل.

سيعرف من لم يكن يعرف أن الرئيس "محمد نجيب" مولود في السودان في 19 شباط/ فبراير 1901، لأبوين مصريين مع بعض الجينات السودانية تحملها الأم. حفظ القرآن الكريم في صغره، وانتقل والده الضابط في الجيش المصرى إلى وادي حلفا في السودان عام 1908 ليلتحق بالمدرسة الابتدائية، ثم كلية جوردون عام 1913، ليلتحق بعدها بالكلية الحربية، وتخرج في 1918 والتحق بذات الكتيبة المصرية التي كان يعمل فيها والده، ليبدأ حياته كضابط في الجيش المصري في الكتيبة 17 مشاة الحربية، ثم التحق بالحرس الملكي عام 1923. وكان أول ضابط مصري يحصل على ليسانس الحقوق أثناء خدمته، وذلك عام 1927 ودبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1929.

يحكي لنا الأستاذ صلاح الشاهد، كبير الأمناء برئاسة الجمهورية، في مذكراته المهمة "ذكرياتي في عهدين"، أن محمد نجيب قدم استقالته عقب حادث 4 شباط/ فبراير 1942 الذي حاصرت فيه الدبابات البريطانية القصر لإجبار الملك على اختيار مصطفى النحاس رئيسا للوزراء، وذلك احتجاجاً منه على عدم تمكنه من حماية مليكه الذي أقسم له يمين الولاء، وشكره الملك ورفض الاستقالة.

شارك في حرب فلسطين عام 1948 وأصيب سبع مرات، فمُنح نجمة فؤاد العسكرية الأولى تقديراً لشجاعته، بالإضافة إلى رتبة البكوية، وتم تعيينه مديرا لمدرسة الضباط. ستصل سيرته العسكرية والأخلاقيه إلى كل الآذان، ويصبح اسمه علما على الوطنية والحرية والاخلاص بمصر كلها، وليس داخل الجيش فقط.. سيتعرف على عبد الحكيم عامر من خلال خاله وزير الحربية حيدر باشا ويصبح مديرا لمكتبه، والذي سيفتح له نافذة على تنظيم سرى في الجيش سماه هو "الضباط الأحرار"، سيقول بعدها حسيرا في آخر عمره إنهم كانوا "الضباط الأشرار".

حميمية العلاقة بين عامر وناصر ستأخذهما في زيارات متكرره لبيت الرجل العظيم في حلمية الزيتون، وتنتهي بأن يطلبوا منه أن يقود التنظيم كأحد الضباط الكبار ليحصل التنظيم على تأييد باقي الضباط في الجيش حال تحركه، فوافق على الفور. وكان هذا الاختيار هو مفتاح نجاح التنظيم داخل الجيش، إذ بمجرد ذكر اسمه على رأس التنظيم كان كافيا لمسارعة الضباط للانضمام إليه، وسُمعته ورتبته داخل الجيش تكفيك فخرا لأن تكون في حركة وطنية سرية تعمل تحت قيادته.

بعدها سيأتي الدور الأخطر، وذلك في ليلة 23 تموز/ يوليو، إذ سيكون الرجل هو العنوان الأبرز والأشرف كقائد للحركة العسكرية التي استولت على الحكم في البلاد، وتحمل بكل الشجاعة والنبل المسؤولية العسكرية والسياسية أمام الجميع.

الحديث عن الرئيس محمد نجيب في ذكرى رحيله.. ليس مجرد تهميش على صفحة شبعت طيا من ماض سحيق لا جدوى من الانشغال بالحديث عنه.. بل نظرة ضرورية فاحصة لسياق تاريخي مفعم بالاضطراب والخيبة التعيسة.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)