قضايا وآراء

السادات إذ يقول: "يوليو ثورة عبد الناصر ويفعل ما يشاء"

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
68 عاما تمر هذا العام على حركة الضباط الأحرار في 23 تموز/ يوليو 1952م، الحدث الأهم في تاريخ الشرق الأوسط خلال القرن الماضي، والذي أنهى حكم أسرة محمد علي بعد أن استمرت 147 عاما (1805 – 1952م).

بعض المصريين ينظرون إلى هذه الحقبة الطويلة من تاريخ بلادهم مرددين البيت الشهير لإيليا أبو ماضي:

وعلمت حين لا يجدي العلم للفتى     أن التي ضيعتها كانت معي

وسواء كانت "معي" تعنى أنها كانت في يدي ثم ضاعت، أو كانت تعني أنها كانت في صفي وتعمل لصالحي ثم انقلبت ضدي، في النهاية سنجد أن المعنيين يصفان واقع الحال. فمصر الكبيرة قبل يوليو 1952 لم تعد هي مصر بعد يوليو 1952.. سواء بالمعنى الأول أو بالمعنى الثاني.

ما جعل من هذا الحدث الكبير في تاريخ الشرق العربى محل جدالات واسعة وعريضة؛ ليس فقط ما أسفر عنه ونتج من كوارث رهيبة لا زالت ممتدة حتى الآن، وهو في حد ذاته يكفي ويزيد لجعلها كذلك، فانهيار العواصم العربية الكبرى وتعملق إسرائيل والتهديد المريع للأمن الحيوي والقومي للمنطقة العربية، كل ذلك شاهد حي على ذلك، بل وتتجدد شهادته كل يوم، ولكن أيضا لما نشر عنها من وثائق تم الإفراج عنها والسماح بنشرها بعد انقضاء المدد الزمنية المحددة لها.

الكوارث التي على الأرض أو الوثائق التي في الملفات لها المختصون بها فعلا وفاعلا ومفعولا به، أو حتى من أجله.. لكن ما كتبه المفكرون والمثقفون يبقى هو الأفق الأوسع الذي يحيط بالحدث وأشخاصه، والشكل الأعلى الذي تشكلت به هذه الأحداث وهؤلاء الأشخاص.

سيكون مهمّا هنا أن نشير إلى جملة بالغة الخطورة والدلالة قالها الرئيس الأسبق أنور السادات، ونقلها عنه الكاتب الراحل مصطفي أمين الذي يقول: "حين عدت إلى مكتبى في أخبار اليوم في المساء قابلت السادات الذي كان يشرف على الصحافة وقتها، وقلت له: أنا كنت عند عبد الناصر وقال لي: إن السادات لا بد أن يحضر اجتماعات مجلس الوزراء، وتشوف شغلك في المؤتمر الإسلامي وتنشط، لكني فوجئت بالسادات يقول: لأ.. دي ثورة جمال عبد الناصر.. وهو يفعل ما يشاء، وأنا ماليش دعوة".

الحديث إذن عن 23 تموز/ يوليو 1952 هو مجرد حديث عن الزعيم الخالد.. والحديث عن الزعيم الخالد هو فقط حديث عن 23 يوليو.

سنتذكر هنا أولا ما كتبه الأديب والمفكر الفرنسي "شاتو بريان" عن "نابليون بونابرت"، والذي كان أحد أهم مستشاريه وسفيره في روما، وكان بريان من ناحيته لا يكف عن كيل المدح له واصفا إياه بـ"أحد كبار رجال التاريخ"، لكن لم تلبث طبيعة نابليون ومطامعه الشخصية ونزعاته الاستبدادية أن كشفت عن نفسها، فكتب عنه قائلا: "ذلك الغريب الذي غدر بالثورة ليبني مجده الخاص.. فصار سيدا على الفرنسيين بانيا ذلك المجد".. قال ذلك في كتابه "بونابرتي وآل البوربون". وهو ما تكرر مع الموسيقار الألماني "بيتهوفن" الذي رأى نابليون كقائد عادل كبير يصعد درجات المجد، بانيا لوطنه انطلاقا من الأفكار التنويرية للثورة الفرنسية، فأهداه السيمفونية الثالثة، لكنه لم يلبث أن اكتشف أنه مجرد ديكتاتور عسكري يحتل بلاد الآخرين ويسعى لمجده الشخصي، فسحب إهداءه وسماها "سيمفونية بطولية كتبت للأجيال بذكرى رجل عظيم"..

لم يكن غريبا إذن أن يكتب توفيق الحكيم "عودة الوعي"، أو جلال الدين الحمامصي "حوار وراء الأسوار"، أو الدكتور حسين مؤنس "باشوات وسوبر باشوات"، وغيرهم كثيرون أيدوا الثورة وقائدها في بداياتها ثم حين تكشفت لهم وجوه الحقائق رصدوها، وكتبوها كما عايشوها.

يقول الدكتور حسين في كتابه المذكور: "خلال 150 عاماً حكم الباشوات بلادنا وملكوا كل شيء فيها: السياسه والجاه وصدارة المجتمع، ولكن من استولى على القصور والأموال والضياع بعدهم؟ فيجيب ساخرا صارخا: السوبر باشوات: باشوات بلا ألقاب، وأشراف بلا شرف، وناس بلا إنسانية، ومواطنون بلا وطنية".

ويضع أستاذ الحضارة الإسلامية في أداب القاهرة المسؤولية على من اشرأبت عنقه وتطلعت نفسه كبرا وعلوّا لحملها، فيقول: "عبد الناصر الذي كان يذل الناس ويعذبهم ويمتهن كرامتهم لأنه كان يحس أن مصر لا تتسع لإنسان آخر عزيز النفس مرفوع الرأي إلى جانبه".. ويُرجع إليه جذور كل مشاكل الحاضر، من الفوضى الاجتماعية والأخلاقية وعدم احترام القانون، إلى ضعف الإحساس بالجماعة وقلة الشعور بالانتماء. وزد بما تريد اضمحلالا بعد اضمحلال. والدكتور حسين كتب هذا الكلام سنة 1985م، وكانت خمائر الخراب قد اختمرت واكتمل اختمارها.

لكن توفيق الحكيم يبدو أنه كان يضع يده على فمه كابحا بداخله ألف قول وقول.. إذ أنه في عام 1972 وبعد مرور عشرين عاما على الثورة وعامين من رحيل "الزعيم الخالد"، كتب كتابة الشهير"عودة الوعي"، ليقدم فيه اعتذارا إلى قرائه وإلى نفسه وإلى التاريخ عن تأييده لعبد الناصر، واصفا له بأنه الرجل الذي جرّ على وطنه وشعبه أسوأ الكوارث والنكبات، قائلا: "أود من كل قلبي أن يسفر هذا البحث النزيه عن تقويم موضوعي للتجربة، ولكن هناك خسارة لا شك فيها ولا يعدلها عندي مكسب، ذلك هو ضياع مصر".

وبالطبع انهالت على الحكيم بعد صدور الكتاب أبشع الاتهامات والشتائم من كهنة المعبد "الناصرى" وسدنته، هؤلاء الذين لم يتعرضوا لصُلب وقائع الكتاب؛ ظنا منهم أن التجريح الشخصي يمكن أن يخفي حقيقة الوقائع. وكان رد توفيق الحكيم على من هاجموه متسائلين عن سبب سكوته وقت حدوث هذه الكوارث، بأنهم يعلمون علم اليقين السبب في ذلك، فقد كانت معارضة "الزعيم" تكلف الإنسان حياته وحياة أولاده وكل من يتصل به.

وحتى إذا صح الفرض بأن السكوت عن الجريمة كان ذنبا، فما قولهم عن الذي ارتكب الجريمة؟ أتترك من ارتكب الجرائم وتحاسب من سكت عنها؟.. حاكموا الاثنين على الأقل.

ويتندر الحكيم في "وعيه العائد" على كتاب "فلسفة الثورة" قائلا: أذكر يوم جاءني صاحبي الصحفي اللامع صديق عبد الناصر (يقصد الأستاذ هيكل) بنسخة من كتاب "فلسفة الثورة" مهدى من مؤلفه الزعيم الخالد، أني فكرت بعد قراءته: كيف يصح لسياسي أن يكشف ورقه للعالم هكذا؟! وحدث أن اطلعت على مقال في جريدة فرنسية حلل فيها أستاذ تاريخ فرنسي كتاب فلسفة الثورة، وبيّن ما فيه من أحلام وآمال وتصورات تكاد تشبه الإمبراطورية الواسعة للدول العربية والأفريقية التي تنتظر الزعيم أن يؤلفها. وأدهشني بعد ذلك ما جاء في بعض الصحف العالمية؛ من أن كتاب فلسفة الثورة هذا تتولى توزيعه في الخارج جهتان في نفس الوقت: السفارة المصرية والسفارة الإسرائيلية! وبالطبع كان غرض السفارة الأخيرة من ذلك إفهام العالم أن زعيماً من طراز هتلر قد ظهر في العالم العربي..

ويستطرد في حديثه عن الثورة وزعيمها وفلسفته إلى أن يصل إلى أم الهزائم قائلا: "لم يكن من الممكن عقلاً ولا منطقا أن نصدق بسهولة أن جيوشنا يمكن أن تُهزم في بضعة أيام.. لقد لبثنا الأعوام وهم يروون عنها الأعاجيب إلى أن اتصل صديق بالتلفون منتصف ليل الخميس ليخبرني بأن مصر قبلت وقف إطلاق النار، فأفقت قليلاً: كيف تقبل مصر ذلك وهي منتصرة؟! ثم شط خيالي مرة أخرى وفسّرت الأمر على أن قبول مصر التوقف عن المضي في انتصاراتها إنما جاء نزولا على رجاء أمريكا ووعدها بتعويض مصر بمعونات مغرية نظير هذا التوقف عن إطلاق النار.. لم أعرف الحقيقة ويعترينى الذهول إلاّ في يوم الجمعة 9 يونيو، فقد ظهر أننا خسرنا الحرب منذ الساعات الأولى من يوم 5 يونيو.. وتوفي عبد الناصر بعد ثلاث سنوات من الهزيمة ولا ندري كيف أمكنه أن يعيشها".

اختطف الزعيم الخالد مصر والمصريين صبيحة 23 تموز/ يوليو 1952 ووضعهم تحت غيمة سوداء من زعامته وأمجاده؛ حجبت عنهم شمس الحياة وتطورها وتواصلها، بل وحجب عنهم المستقبل ذاته. وصدق السادات حين قال إنها ثورة عبد الناصر، وبالفعل فعل بها وفيها ما يشاء.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)