قضايا وآراء

أخطاء منهجية في ورقة المراجعات الفكرية وأمل المعتقلين بمصر

عصمت الصاوي
1300x600
1300x600
نشر المعهد المصري للدراسات ورقة بحثية بعنوان "المراجعات الفكرية: هل تكون أمل المعتقلين في السجون المصرية؟"، وشارك في إعدادها كل من: محمد إلهامي، وأحمد مولانا، وأحمد الأزهري، وعلاء عادل.

جاءت الورقة لتناقش تجربة الجماعة الإسلامية في مصر، حيث سيفيد التعرف على ملامحها وسياقاتها وظروفها في بناء تصور واقعي حول المشاريع الشبيهة المطروحة حاليا، كما قال الباحثون.

فالورقة تخاطب جماعة الإخوان المسلمين ابتداءً، لتضع أمامهما تصورا واقعيا عن المبادرات والمراجعات للوقوف على جدوى تكرار التجربة أو الكف عنها. ويبدو الباحثون كمن يحملون أجندة مسبقة تتعلق برفض فكرة قيام الإخوان المسلمين بأي مراجعات. ولذا جاءت الورقة في مجملها تهدف إلى تشويه مبدأ وفكرة المراجعات من حيث الأصل، مع الإسقاط على تجربة الجماعة الإسلامية، كما جاءت تحمل جملة من الأخطاء المنهجية التي من غير الممكن أن تصدر عن الباحثين المشاركين في إعدادها، إذ هم أصحاب سبق في إنتاج أوراق تعتمد منهجية حقيقية.

ولهذا، فإن تعليقنا على هذا البحث هو من باب حرصنا على توضيح حقائق كثيرة أغفلها الباحثون، وتوضيح جانب من الأخطاء المنهجية التي كنّا نتمنى ألا يقعوا فيها حرصا على مستقبلهم البحثي، ثم نختم بما استخلصناه من دوافع البحث وأهدافه وهل أصابت الهدف..

أولا: استخدام كلمات غير مناسبة في البحث الأكاديمي مثل:

(التخلي - التوبة الجماعية - التوبة إلى الدولة – التتويب السياسي – التتويب الجماعي - التراجعات – متى تقبل الدولة التوبة – التأديب والإذلال – سلسلة التنازلات – سلم التنازلات - الإخوة المتراجعون...).. هذه الكلمات حين تُقال في بحث أكاديمي في مرحلة متقدمة من البحث مع التأكيد على تلك المصطلحات في كل فقرة تقريبا لا توحي بحيادية البحث ورغبته في الوصول بالقارئ إلى الحقيقة المجردة واستنتاج ما يفيد التجارب الشبيهة، كما زعم الباحثون في صدر الورقة، إنما توحي بمحاولة أخذ القارئ نحو وجهة محددة ولو بالتدليس عليه بدس هذه المصطلحات في بحث يبدو من سياقه أنه يحمل الطابع الأكاديمي، بمراجع وصلت إلى 114 مرجعا، في محاولة غير بريئة للترويج لوجهة نظر اعتمدوها بعيدا عن هذا البحث. فهذه المصطلحات تمثل الحكم المسبق على التجربة قبل عرض ومناقشة المطروح، وتخرج بالورقة من حيز البحث الأكاديمي المحترم إلى دائرة الإساءة السياسية غير المبررة، ولا سيما أن الواقع المحيط بالباحثين والممتلئ بالمعارضين من أبناء الجماعة الإسلامية بالخارج والداخل يكذب الادعاءات التي تبنوها بلا أدنى مجهود.

ثانيا: الخلط المتعمد بين مفاهيم المراجعة والتراجع

فالباحث الذي عاب في نهاية ورقته على الباحثين الغربيين الذين لم يحرروا مصطلح الإرهاب، مما أدى للخلط في التعامل مع المصطلح، لا يمكن أن يكون فاته تحرير مصطلحات المراجعة والتراجع، مما يرجح تعمده الخلط بين المصطلحين، وهو خطأ منهجي لا يمكن التغافل عنه. إذ أن هذه الطريقة من شأنها تشويه المصطلح وإدخاله في قائمة المصطلحات سيئة السمعة، ومن ثم التشويه المتعمد للتجربة بكليتها، ومن ثم تشويه أصحابها برغم أن مصطلح المراجعة ومضمونه له جذور عميقة في تراثنا الإسلامي، بل وأدبيات الثقافات الحيّة في العالم، والتي تعتمد النقد الذاتي.

فالباحث يقول في إحدى فقرات الخلط المتعددة: "فما يهمنا في هذا السياق هو أن عملية المراجعات الفكرية التي تحاول الدولة إرغام خصومها عليها، ليس فقط بمنطق القهر، بل بمنطق التأديب والتربية وإعادة التأهيل". ويقول في موضع آخر: "لئن كانت مراجعات الجماعة الإسلامية فصلا من عمليات تتويب الدولة الحديثة لمواطنيها، وإعادة تشكيلهم ليكونوا مواطنين صالحين...".

ولا يفوت أصغر الباحثين في علم السياسة أن النص السابق يقصد به التراجعات وليس المراجعات، ولكن الباحث يتعمد الخلط لتشويه المصطلح.

فالمراجعات هي عملية حيوية داخل الكيان تتم بعد إنجاز مراحل من التقييم والنقد الذاتي، تهدف إلى التثبت من صحة الممارسات قياسا على مدى التزامها بالمنهج المتبع، بل ومدى تطابقها مع الخطة الاستراتيجية ومدى تحقيق الأهداف. ويدخل في ذلك مدى دقة انطباق الأحكام وتنزيلها على الواقع، وهي تخضع لمعايير الشرع وتنضبط بأحكامه.

بينما التراجعات هي زيغ القلب، واتباع الهوى، وزعزعة ثوابت الدين والقيم والمبادئ، والتحلل منها، والانقلاب عليها دون مستند من فتوى أو مرجع من دين، ولا مكان فيها للإرادة الذاتية، ولا لضوابط الشرع وأحكامه، ولا مكان للنقد ولا التقييم، ولا المناقشة والحوار والإقناع، وإنما هي تنازلات وإملاءات على المغلوب من الغالب.

وأبين الفروق بين المصطلحين هو أن المراجعات تمثل تصحيح المسار لإنجاح مشروع التغيير الذي تستهدفه الحركة، بينما التراجعات تمثل التنازل عن المشروع بالكلية، وقد تصل إلى حد الاندماج في المشروع الآخر.

والفرق بين المصطلحين وموقف الجماعة الإسلامية منهما أبين من الشمس في وضح النهار، ولكن البحث دلس على القارئ بالخلط المتعمد بين المفهومين، كما قال الشاعر قديما: "قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد.. وينكر الفم طعم الماء من سقم".

ثالثا: الباحث أهمل معايير الحكم المنهجية على المراجعات واحتكم إلى معايير الحكم على التراجعات

لم يعرض الباحث المراجعات على معايير منهجية للحكم على صحتها أو عوارها، وحتى أنه شكك في تقارير الأزهر المتعلقة بكتب المبادرة واعتبرها إملاءات من الدولة لشرعنة المراجعات وإضفاء الصبغة الدينية عليها لتمريرها ونشرها، وكان الأولى بالباحث أن يعرض الجزء الشرعي من المراجعات على معايير الشريعة ونصوصها الحاكمة، فهي المعايير المنهجية الوحيدة القادرة على الحكم على صحة المراجعات أو خطئها، ومن ثم صحة تقارير الأزهر أو خطئها، وعلى رأس هذه المعايير على سبيل المثال لا الحصر مدى اتساق المراجعات أو اختلافها مع النصوص الشرعية الحاكمة، ومدى صحة تنزيل تلك المراجعات على واقع البلاد والأمة، ولكن الباحث الذي لا يفرق بين المراجعات والتراجعات قفز على المعايير المنهجية للحكم على المراجعات واحتكم إلى معايير الحكم على التراجعات، فصارت المعايير المعتبرة لديه هي البيئة المحيطة بالمراجعات وبرامج الدولة للإخضاع والتتويب.

رابعا: عدم منهجية البحث في العرض وتبنيه لصحة فرضيته قبل اكتمال جوانب البحث فيها

اتسم البحث بعدم المنهجية وانعدام الأمانة في العرض، حتى أنه اعتمد إبراز العوامل المساعدة على صحة فرضيته، وأهمل العوامل المضادة، ومثال ذلك احتكم الباحث إلى قدرة الدولة الإله على تركيع المخالفين وإخضاعهم إلى عملية التتويب الجماعي، واعتبرها مؤكدة النتائج مضمونة التأثير للتدليل على صدق منطقه، وخرج باستنتاج أن الجماعة الإسلامية تأثرت ببرامج الإخضاع وقدمت التراجعات.

واختار لذلك معيارين؛ أحدهما هو البيئة المحيطة فاعتبر أن المراجعات طالما تمت في السجون فهي تراجعات تمت لصالح النظام، وهو خطأ منهجي كبير، فالظروف المحيطة لا تعدو أن تكون أحد العوامل المؤثرة في الحكم في حال انحراف المراجعات شرعيا أو واقعيا.

والمعيار الثاني هو برامج الدولة للإخضاع والتركيع، والذي اعتبره الباحث العامل الأهم في عملية التتويب، فاعتبر أن استهداف الجماعة ببرامج التعذيب الممنهج والعزل والتضييق والتصفية هو أهم العوامل التي أنتجت المراجعات، في خلط متعمد بين المعايير الحاكمة على المنتج وبين الظروف المحيطة به.

كما أن الكاتب في المقابل بحث أحد جوانب الظاهرة وهي برامج الدولة للإخضاع، وأغفل الجانب الأهم للظاهرة، وهي البرامج التربوية والعلمية والسياسية والثقافية المضادة التي ارتكز عليها قادة الجماعة بحزم شديد داخل المعتقلات لتفريغ الإجراءات القمعية من محتواها وأثرها، مما أفشل خطط وبرامج الإخضاع ومكّن الأفراد والقادة من الصمود الاجتماعي والسياسي الطويل داخل المعتقلات.

وأمثلة تلك البرامج شديدة الحزم داخل المعتقلات برنامج التكافل الاجتماعي بين المعتقلين الذي أفرزته أخوة حقيقية وإيثار منقطع النظير في مجتمع السجون، وكذا الحلقات التربوية والعلمية، وبرامج الإذاعة والمسابقات الدورية، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم والسنة النبوية، وصلاة الجمع والجماعات، واختيار منهج للفتوى يناسب الواقع المعاش، وغيرها من البرامج التي أفشلت برامج التركيع والإخضاع.

وفي مقابلة لي مع الشيخ محمد عمر عبد الرحمن، وقد سُجن في السجون التابعة للأمريكان في أفغانستان، ذكر أنه خضع لتلك البرامج التي كانت تمنعه من النوم، وتعرضه للإنهاك البدني والنفسي، وبعد مرور بضعة أشهر جاء المحقق الأمريكي للتحقيق معه فوجده صافي الذهن لديه تركيز عقلي كبير، فتعجب المحقق وتشكك في خضوعه لبرنامج السجن والمدة الزمنية التي قضاها تحت تأثير برامجهم، وفي النهاية قال من المفترض أن تكون على غير هذه الحالة وأصر على معرفة البرنامج اليومي للشيخ، فأفاده الشيخ بقوله أقرأ القرآن الكريم وأداوم على مراجعته. هذه البرامج المضادة التي لا يعيها الباحث ووصف أصحابها بالمتراجعين هي التي أفشلت خطط وبرامج التركيع.

ومن أمثلة فشل برامج الإخضاع أمام برامج التربية فشل ملف إقرارات التوبة، والتي عرضت على أبناء الجماعة بعد أكثر من عشر سنوات اعتقال حتى رفضها الأحداث من أبناء الجماعة قبل قادتها وكوادرها، وقد كانت هي الأسهل في التراجع لو كانت برامج الإخضاع أتت بثمارها فشل ملف التوظيف والعمالة والتجنيد داخل صفوف الحركة، فشل ملف التأثير على أسر المعتقلين والاستمرار في دعمهم إلى أبعد مدى.. الخ.

كما أن تتبع الجانب السلوكي والنفسي للمعتقلين والمحكومين من أبناء الجماعة الإسلامية يخالف ما ذهب إليه الباحث من تعرضهم للانهزام النفسي وإصابتهم باليأس والإحباط؛ فالغالبية استثمرت الوقت في الحصول على الشهادات الجامعية خلافا للدراسات العليا والدكتوراة، بل وأصبح منهم قادة انخرطوا في العمل السياسي والدعوي والاجتماعي والجماهيري بعد خروجهم من المعتقلات.

وذلك يجعل التفسير الغربي لبرامج الإخضاع محل نظر، وهو ما أظهر عدم منهجية الكاتب في العرض وتبنيه لفرضية دون اكتمال جوانب البحث فيها.

خامسا: النفاق السياسي وانعدام الحياد

من أخطر الأخطاء المنهجية في البحوث الأكاديمية هو الوقوع في فخ النفاق السياسي، فهو يُخرج الباحث عن الحيادية في العرض والاستنتاج، فنجد الباحث على سبيل المثال يُعرض بالجماعة الإسلامية في مقابل الإخوان المسلمين فيقول:

"تتمثل قيمة تنظيرات صلاح نصر في أنها لم تظل حبيسة الكتب، إنما طُبقت عمليا على عناصر جماعة الإخوان المسلمين داخل السجون، وبالأخص في قضية تنظيم 1965 والمشهورة باسم قضية "تنظيم سيد قطب". وقد حققت هذه التجربة نتائج إيجابية في أوساط العديد من الكوادر المتوسطة والصغرى من عناصر التنظيم، بينما فشلت في تطويع معظم الرموز وقيادات الصف الأول، أما تجربة التتويب الأبرز، فهي التي حدثت للجماعة الإسلامية خلال عهد مبارك".

فالباحث يقول إن عملية التطويع أثرت في العديد من الكوادر الوسطى والصغرى في تنظيم الإخوان وفشلت مع القيادات، بينما نجحت بشكل جماعي في حالة الجماعة الإسلامية، وكان الأولى بالباحث لو أنصف، كما استثنى قيادات الإخوان في جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب ولا ضرورة لذكرها في مجمل بحث لا يتناول الإخوان بالأصالة، أن يستثني قيادات الجماعة الذين زعم هو أنهم رافضون للمراجعات، وخاصة أن البحث يتناولهم بالأصالة دون غيرهم.

سادسا: واقع الجماعة يتعارض مع ادعاء الباحثين

إذا كانت الجماعة الإسلامية قد تم ترتيبها ودخلت في أحضان الدولة الإله، وقدّمت التراجعات، كما يزعم الباحثون، فلماذا استغرق خروج قادتها أكثر من عشر سنوات منذ تفعيل المبادرة في 2001 وحتى خروج أخر عناصرها في 2011؟ ثم لماذا لم يسمح لها بتأسيس حزب سياسي أو حتى جمعية خيرية، أو حتى العودة إلى المساجد في عهد مبارك؟ ولماذا رفضت إدارة مبارك رفع اسم الجماعة من قوائم الإرهاب الأمريكية رغم العرض الأمريكي بذلك؟ ثم لماذا شاركت الجماعة في ثورة 25 يناير إذا كانت قناعاتها قد تغيرت، كما يزعم الباحثون؟ ولماذا رُفض تأسيس حزبها بعد الثورة قبل أن يحصل على حكم قضائي من الإدارية العليا وهو ما لم يتعرض له حزب إسلامي آخر؟ ثم لماذا رفضت الانقلاب في 2013؟ ولماذا شاركت في رابعة العدوية؟ ولماذا استشهد العديد من أبنائها هناك، واستشهد رئيس مجلس شوراها وغيره من القيادات في السجون، واعتقل وحوكم غيرهم وغيرهم؟ ولماذا المطاردون والفارون في كل أصقاع الأرض؟ ولماذا وضعت والعديد من كوادرها على قوائم الإرهاب المصرية؟ ولماذا يراد حل حزبها؟ ولماذا قامت الأجهزة الأمنية ببناء ما سمي بتمرد الجماعة الإسلامية لتوظيفه في تشويه الجماعة وقادتها واعتبارهم خارجين على النظام؟ والقائمة تطول أمام الباحثين الذين يزعمون خضوع الجماعة لعملية التتويب الجماعي.
التعليقات (0)