هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لطالما اتسم سلوك مقتدى الصدر بالتقلب والتحول بين المواقف السياسية المتناقضة، حتى كان كثيرا ما يصيب المتابعين بالحيرة، إزاء تقلباته التي اتسمت بالغموض وعدم العقلانية في كثير من الحالات، وقد وصف البعض سلوك الصدر بأنه ربما كان نوعا من البراغماتية والذكاء السياسي، الذي تسبب بتحوله من قائد تيار شعبوي مركون في هامش العملية السياسية في عام 2003، إلى أحد صناع الملوك في عام 2018، وربما يعتبر البعض اليوم تحركات الصدر بأنها مسعى للتحول إلى صانع الملوك الأول في العراق. فكيف يمكن أن نقرأ التحول الذي طال التيار الصدري وزعيمه؟ وهل انتقل إلى خندق الحكومة هو الآخر؟ وهل سيستمر مشروع تصفية الانتفاضة، الذي أطلقته مؤخرا فصائل خاضعة للصدر مثل «سرايا السلام» و«القبعات الزرق»؟ وهل هناك إمكانية لعودة الثقة والتحالف بين المتظاهرين والصدريين؟
كثيرا ما كان سلوك الصدر السياسي متسما بالضبابية وعدم الوضوح، وغالبا ما لعب لعبة الموازنة الخطرة، عبر وضع قدم في العملية السياسية وتشكيلاتها الحكومية والبرلمانية، بينما يضع القدم الأخرى في ساحات المعارضة والاحتجاجات الشعبية، وهو أمر بالغ المفارقة، ففي حركة احتجاجات 2015 التي كان الثقل الأكبر فيها لجماهير الصدريين، كانت للصدر حينها كتلة نيابية، هي «كتلة الأحرار» تمتلك أربعين مقعدا في البرلمان، وكانت تؤدي دورا محوريا في تمرير أو منع القوانين والصفقات السياسية، كما كان الصدر مسيطرا على العديد من الوزارات الخدمية، والدرجات الخاصة في الهيئات المستقلة، وكان التيار الصدري يمتلك ما يعرف باللجنة الاقتصادية، حاله حال بقية أحزاب السلطة التي اشتركت في نهب المال العام وتحويله إلى مال سياسي فاسد.
لكن رغم كل ذلك كان جمهور التيار يهتف وراء زعيمه (شلع قلع) بمعنى المطالبة بالتغيير الجذري للعملية السياسية، وعندما أعطى السيد القائد، كما يحب أتباع الصدر تسميته، الضوء الأخضر لجماهيره من فقراء الشيعة القادمين من أحيائهم الهامشية في العاصمة وبقية المحافظات، الذين كانوا معتصمين على أطراف المنطقة الخضراء، وبمجرد وصول الإشارة اقتحم مئات الآلاف البرلمان ومباني الحكومة، واعتصموا فيها وحولها، وبإشارة أخرى من القائد تم الانسحاب التام، وكأن شيئا لم يكن، لتعود الحياة إلى سابق عهدها المتعفن، برلمانا منخورا، وحكومة فاسدة، وعملية سياسية رثة، وبعد سنوات من حادثتي اقتحام المنطقة الخضراء، عندما سُئل مقتدى الصدر في حوار تلفزيوني عن مغزى الأمر، ضحك وقال إنها كانت مجرد (جرة أذن) للطبقة السياسية.
وبضمن تقلبات الصدر، التي يجب الوقوف عندها، ائتلافه مع ما عرف بالتيار المدني، ولبَه من الشيوعيين والليبراليين، وقد تلقف عدد من المفكرين والكتاب الأمر، وأطروه نظريا وفق نظريات الكتلة التاريخية التي نادى بها غرامشي، وحركات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، وربما يمكننا الإشارة إلى أهم الأسماء التي تلقفت انقلاب الصدر، عبر التنازلات التي قدمها عندما أقدم على اتخاذ خطوة الائتلاف الإسلامي /العلماني وهم الأساتذة: فالح عبد الجبّار، وفارس كمال نظمي، وأحمد عبد الحسين، وجاسم الحلفي وسرمد الطائي، وعدد من الصحفيين والمدونيين الشباب، وقد تلقى كل أولئك الأشخاص نقدا حادا من تيارات اتهمتهم بالتلفيق، ومحاولة استثمار تحالف مع تيار له جمهور واسع، لكنه يبقى تيارا شعبويا إسلامويا ذا تاريخ عنيف تحركه ولاية الفقيه، لكن منطلق أو رؤية هؤلاء الكتاب والمثقفين، كانت تعتمد على فكرة مفادها، إمكانية العمل على تثوير طبقة كادحي الشيعة المسحوقة التي تمثل جوهر الحركة الصدرية وفق آليات علمانية، مع احتفاظ كل من طرفي الائتلاف بخصوصيته.
عندما انطلقت مجاميع صغيرة من الشباب غير المنتمي في حراكها العفوي في الأول من أكتوبر/تشرين الأول لم يشترك جمهور التيار الصدري في الحراك، وكان لديه العديد من الشكوك والاتهامات حول من يدفع أو يحرك هذه الموجة الاحتجاجية. وبالطبع كان حراك تشرين خارجا لإسقاط حكومة عادل عبد المهدي التي شكلها السيد مقتدى الصدر، زعيم كتلة سائرون، بالاتفاق مع هادي العامري زعيم كتلة البناء، وبخرق دستوري لم تحدد فيه الكتلة البرلمانية الأكبر، بل تم التوافق بينهما على عبد المهدي.في غضون خمسة أيام سقط عشرات القتلى برصاص القناصة، وقمع الحراك بعنف غير مسبوق، لكن ثبات الشباب أكسبهم تعاطف الشارع، وعندما تم إيقاف فعاليات الاحتجاج، ومن ثم عودتها يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر، اشترك جمهور التيار الصدري في حركة الاحتجاج مع عدم الإشارة إلى مرجعيتهم السياسية، وشاركوا المتظاهرين الوقوف في ساحات الاعتصام، وعلى الجسور تحت العلم العراقي فقط، وتساقطت على رؤوسهم قنابل الدخان، وهشمت جماجم شباب الانتفاضة دون تمييز بين من كانوا صدريين، أم غير صدريين.
نتيجة ذلك ورغم كون مقتدى الصدر لاعبا أساسيا في العملية السياسية بكتلته البرلمانية (سائرون) المكونة من 54 مقعدا، وحصصه في الوزارات والسلطة التنفيذية، إلا أن الحراك كان يستثنيه من الهتافات المطالبة بإزاحة الطبقة السياسية، وفي لحظة الانقلاب الحاسمة التي بدأ عندها الصدر أداء دور القائد الأعلى لفصائل «المقاومة الإسلامية»؛ نتيجة الفراغ الذي حصل باغتيال سليماني والمهندس، وفي اجتماع تم إذاعة بعض تفاصيله، التقى الصدر مع قيادات فصائل المقاومة الإسلامية في قم، وتم إعلان تشكيل ما عرف بفصائل «المقاومة الدولية» لمحاربة النفوذ الأمريكي.
وبحسب تسريبات تحدثت عن ما دار في غرف الاجتماعات في قم، تم تسريب أخبار الاتفاق الذي تم بين العامري والصدر على تكليف محمد توفيق علاوي بتشكيل الحكومة، الذي سيعد بإجراء الإصلاحات وإجراء الانتخابات المبكرة، لكن الغاية الحقيقية هي إكمال عمر حكومة عبد المهدي، وصولا إلى انتخابات 2022، ومن ثم إجراء الانتخابات العادية. لكن تبقى مشكلة ساحات الانتفاضة الرافضة لكل هذه الإجراءات، والتي تعهد الصدر لشركائه باختراقها ومن ثم إجهاضها بعد أن فشلت الإجراءات الحكومية وقمع المليشيات المتحالفة معها في انهائها.
وكانت الخطوة الأولى لانقلاب مقتدى وتنفيذ الأجندة الجديدة يوم 24 كانون الثاني/يناير، عبر ما عرف بـ«مليونية السيادة» التي صفق لها الإعلام الذي تديره مجموعة قنوات «المقاومة الإسلامية» القريبة من طهران، التي صورتها على أنها تظاهرة ستكنس الخونة والمندسين في ساحة التحرير، لكنها لم تكن سوى مسيرة قامت وانتهت دون تأثير يذكر، فما كان من مقتدى إلا أن غرد على حسابه في تويتر متهما المنتفضين بالتهجم عليه وإعلان زعله عليهم، وتوجيهه الأوامر لتياره بالانسحاب من ساحات الاعتصام، وقد أطاع جمهوره الأمر، وكان المتوقع انهيار ساحات الاعتصام نتيجة الاعتقاد بأن الصدريين هم مركز ثقل الاعتصامات، لكن الانهيار لم يحصل.
الخطوة الثانية كانت في الهجوم الممنهج الذي قامت به القوات الأمنية على من تبقى من المنتفضين، وقامت بفتح الجسور والطرق في بغداد والمحافظات، كما قامت جهة مسلحة مجهولة فجر 27 تشرين الأول/ يناير بهجوم كاسح على ساحة الحبوبي مركز الاعتصام في الناصرية، وقامت بإحراق الخيام، وأدى الهجوم إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى. ليتم بعدها إطلاق مقتدى تغريدة يطلب فيها من جماهير تياره العودة لساحات الاحتجاج وسط دهشة وسخرية المنتفضين.
الخطوة الثالثة كانت إعلان تكليف محمد توفيق علاوي، وتبني مقتدى المبادرة باعتبار علاوي مرشح ساحات الانتفاضة، ما أدى إلى توتر الجو بين «القبعات الزرق»، وهم فصيل تابع للتيار الصدري، وبقية جماهير الانتفاضة الرافضة لترشيح علاوي، والنتيجة إطلاق حملة مسعورة استخدم فيها أفراد «القبعات الزرق» وبعض المساندين لهم الهراوات والسكاكين وبعض الأسلحة النارية، ما أدى إلى قتل عدد من المنتفضين في ساحة التحرير وفي ساحة الصدرين في النجف. والآن بات بين مقتدى والانتفاضة دم الشباب المنتفض، فقد اشترك مع الحكومة ومليشياتها في إهداره، فهل هناك إمكانية لعودة العمل بين الطرفين تحت أي مسمى أو ضمن أي شروط؟
يرى بعض الكتاب والصحفيين والسياسيين، أن الأزمة هذه المرة أكبر بكثير من الأزمات السابقة التي تقلب فيها موقف مقتدى، وإن شريحة أو قطاعا واعيا من شباب الصدريين، الذين تأثروا بأجواء انتفاضة تشرين سينسلخون حتما عن تيارهم، وينضمون لأقرانهم من شباب الانتفاضة، تاركين الحرس القديم من التيار الصدري من القتلة و«الصكاكة» مع رجل دين مهووس بالزعامة، يحاول ركوب موجة تشكيل حكومة محكوم عليها بالفشل قبل أن تتشكل. بينما يأسف بعض المدنيين والصدريين على ما آلت إليه الأمور بين الطرفين، لكنهم يقفون إزاء معضلة يبدو أن حلها بات مستعصيا، فالصدريون يقدسون زعيمهم، وينزهونه عن الخطأ، ويحاولون فرض ذلك على شركائهم، بينما يرى المدنيون أن مقتدى مجرد لاعب في العملية السياسية، ومن ثم يمكن أن ينال ما يناله غيره من الساسة من السخرية والهجوم، لذا كان شعارهم، الذي كثيرا ما أغاظ الصدريين في الأيام الأخيرة (شلع قلع والقالها وياهم)، أي تغير جذري وبضمنه من أطلق الشعار في إشارة لمقتدى الصدر.
(القدس العربي اللندنية)