25 سنة ليست زمناً عابراً في عمر بلد مثل
الأردن، أكثر ربما من دولة الاحتلال الإسرائيلي، لا تتكاثر أزماته المختلفة،
الداخلية والإقليمية، بمعدّل السنة الواحدة، فحسب؛ بل كذلك بما انطوت عليه تلك
السنوات من تناقضات صارخة، وانتهاكات إسرائيلية فاقعة وفاضحة. هذه حال جعلت
اتفاقية وادي عربة، بوصفها وثيقة “السلام” الأردني ــ الإسرائيلي، أقلّ من حبر على
ورق في يقين إدارات الاحتلال المتعاقبة، وأكثر من منبع إحراج وطني وشعبي في ناظر
الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال وخَلَفه الملك عبد الله.
وثمة إجماع، لدى
الساسة ذوي الشأن أسوة بالمراقبين والمحللين في الأردن ودولة الاحتلال على حدّ
سواء، أن التنسيق الأمني على الحدود هو كلّ ما تبقى من أثر ميداني لذاك الحبر على
الورق؛ حين لاح قبل ربع قرن، بشهادة أمثال الرئيس الأمريكي بيل كلنتون ووزير
خارجيته وارن كريستوفر والملك حسين ورئيس الحكومة الإسرائيلية يومذاك إسحق رابين،
أنّ “دفن الوطن البديل” هو أوّل الثمار اليانعة؛ والثمرة التالية، ضمن السياق
التاريخي إياه، كانت “جزيرة السلام” حسب التوصيف الإسرائيلي، حيث وافقت عمّان على
تأجير دولة الاحتلال حقوق الاستثمار الزراعي وإقامة محطة توليد للكهرباء في أراضي
الباقورة والغمر لمدة 25 سنة.
هذه الأراضي التي
يتوجب أن تعود مجدداً إلى الأردن اليوم تحديداً، وليس من الواضح بعد ما إذا كانت
حكومة نتنياهو سوف تتوقف عن المماطلة في تسليمها ومنع المزارعين الإسرائيليين من
الدخول إليها بعد تاريخ البدء بعمليات التسليم، هي الواجهة الأحدث لمآلات اتفاقية
عربة على صعيد سياسي وحقوقي ودبلوماسي (مع استثناء الأصعدة الأمنية
والاستخباراتية، فهي قائمة ونشطة وفي “أفضل حالاتها” حسب المراقبين). وقبل ملفّ
الباقورة والغمر، شهد ربع القرن المنصرم سلسلة منعطفات وأزمات وجمود معظم الوقت أو
نشاط عابر، لعلّ أبرز عناوينها الراهنة أنّ الملك الأردني رفض مؤخراً استقبال
نتنياهو، وآخر لقاء بينهما يعود إلى سنة 2014؛ وأنّ تحريك ملفّ الأسيرين الأردنيين
لدى دولة الاحتلال، هبة اللبدي وعبد الرحمن مرعي، والإفراج عنهما لاحقاً، إنما تمّ
بتوجيهات من الملك شخصياً وليس بمبادرة من وزير الخارجية أيمن الصفدي.
إلى هذا وذاك، لن تعدم
عمّان جملة أسباب إضافية، معظمها جوهري ومبدئي، للاستمرار في الإبقاء على الصيغة
الراهنة من علاقات أردنية ــ إسرائيلية هي في خلاصتها “سلام بارد، وعلاقة تزداد
بروداً” حسب تعبير الملك عبد الله؛ قبل عقد من الزمان في الواقع، وليس في هذه
الأيام. ثمة الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة لتفاهمات اتفاقية وادي عربة حول
الإشراف على المقدسات الإسلامية في القدس، وحنث دولة الاحتلال بوعد محاكمة حارس
السفارة الأردنية في عمّان الذي قتل مواطنين أردنيين، وصولاً إلى تصريحات نتنياهو
حول ضمّ أراض في وادي الأردن.
طريف، في المقابل، أنّ
دولة الاحتلال ذاتها لا تبدو متحمسة للاحتفاء بالذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقية
اعتُبرت، عند توقيعها، حاسمة ومفصلية؛ فلا احتفالات ولا مناقشات ولا حتى مقدار
الحدّ الأدنى من التحليلات الأكاديمية والتغطيات الصحفية والإخبارية. في المقابل
تبدو تصريحات نتنياهو أشدّ حماسة لتطوير العلاقات الإسرائيلية، العلنيّ منها
والخفي، مع بعض الدول الخليجية؛ تتوازى مباشرة مع تصريحات ومواقف ومسلكيات لا
تتحلى بحميّة قريبة على أيّ نحو تجاه العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية.
وقد يستعيد المرء
برهتَيْن لكلّ منهما دلالة خاصة في تأطير راهن وادي عربية، تتمثل البرهة الأولى في
طائرة الملك حسين التي حلقت فوق القدس، خلال عودته إلى عمّان، بعد يوم واحد من
توقيع الاتفاق؛ حين كانت طائرات الـF-15 الإسرائيلية التي رافقت الركب الملكي تختصر روحية الاحتفال بالمناسبة.
البرهة الثانية هي صورة جمانة غنيمات، المتحدثة باسم الحكومة الأردنية وهي تدوس
بقدميها (مضطرة، غنيّ عن القول) على العلم الإسرائيلي المرسوم فوق أرضية مدخل
مجمّع النقابات في عمّان.
وثمة عشرات النماذج
على تفاصيل مماثلة تجعل ملفّ وادي عربة يزداد التصاقاً، يوماً بعد يوم، بطابع
الحبر على الورق والسلام البارد.