أخبار ثقافية

ما بعد الحداثة والشعر.. تأملات في المفهوم والتمثل العربي

أدب
أدب

لا يُماري أحدٌ بأنّ مصطلح "ما بعد الحداثة" (Post modernism) ما زال مثيرًا للرّيبة حتى عند أشهر دعاته مثل إيهاب حسن، وهو أحد أهم نقاد الأدب والثقافة الأمريكيين المعاصرين وأكثرهم تأثيرًا، وهو من أصل مصري ولد سنة (1925)، ويلقى اعترافًا واسع النطاق بوصفه منظرًا رائدًا لما بعد الحداثة، وفضلاً عن ذلك فإن الريبة تكمن في أنّ أية محاولة لتحديد مفهوم "ما بعد الحداثة" ستبدو مرتبكة ومشتتة نظرًا لطبيعة الحالة التي يمثلها على الصعيد الفكري والفني والأدبي، وهو ما يجعل تمثله أو محاولة تمثله في الشعر العربي خاصة أمرًا أشدّ ريبة وخطورة.

وقد كانت الإشكالية المحيطة بـ"ما بعد الحداثة"، مفهومًا ومصطلحًا، تأتي - أولاً - من السابقة "ما بعد" التي ألصقت به للتعبير عن شيء لا يقوم بذاته، فهو يحتاج إلى ما يأتي بعده. ذلك أنّ دلالة "ما بعد" التي تتجاوز الدلالة التاريخية لتشير إلى أفق وفضاء يضم عددًا من المصطلحات والمفاهيم في مجالات عدة؛ مثل: ما بعد البنيوية، وما بعد النسوية، وما بعد الاستشراق، وما بعد الكولونيالية، وما بعد الأيديولوجيا...إلخ، إنّما تكشف عن سعة ما يحتمله هذا الأفق من تعددية وتنوع ربما تخل – على نحو شديد – بإمكانية امتلاك ماهية ما، فيتعذر معها إقامة المفهوم وقابلية الاصطلاح، إذ كيف يمكن لـ"ما بعد" أن تتجاوز ما يلحق بها من مصطلحات وهي تستدعيه في الوقت ذاته؟

ثم تأتي الإشكالية –من جهة ثانية - من مفهوم الحداثة ذاته، الذي يشير في إحدى صيغه إلى ما يتجاوز الدلالة على مرحلة تاريخية، ليؤكد حالة التجاوز المستمرة، وعدم الثبات على معطىً ما فكريّ أو فنيّ، هذه الحالة المواربة، التي كانت – دومًا – مدعاةً للشك والمفارقات الحادة في رفضها لليقينيات المعرفيةّ والفنيّة، لم تتخلَ عن نزعتها في إقامة هويّة ما متمركزة حول معطى محدد، وساعية – في الوقت ذاته - لتشكيل أفقها الخاص.

 

اقرأ أيضا: المشردون أبطالاً في الرواية العربية

لقد عبّر إيهاب حسن عن هذا الوضع الإشكالي باستعارة من أسطورة أوديب، فرأى أنّ مصطلح "ما بعد الحداثة" ليس مربكًا فقط، ولكنّه – أيضًا – أوديبي، ومثل مراهق متمرد، ولكنه عاجزٌ لا يمكنه فصل نفسه عن أبيه. ومن ثَمّ فقد نُظر إلى ما بعد الحداثة على أنها امتدادٌ أو توسيعٌ أو تكثيفٌ أو تقويضٌ أو رفضٌ للحداثة، ولكن ثمة قائمة من السمات التي صاغها إيهاب حسن للتمييز بين الحداثة وما بعد الحداثة قد تُمكن من مقاربة المفهوم والاعتراف به إلى حدٍّ ما، لعل أبرزها: التحرر من التاريخ، وتعدد الأشكال، وتجاوز النوع، والتشتت، والغياب، والهدم/ التفكيك، وانعدام المركز، وتخلخل الهوية...

وإذا كان مفهوم "ما بعد الحداثة" يشهد إشكالية عميقة في قابليته للتداول نتيجة وضعه في ذاته، ونتيجة تعدد مجالاته التي غطت معظم نتاجات الحضارة الغربية المعاصرة من فنون وعلوم وثقافات وفلسفات، فإن ما يبدو مشكلة حقيقية أن يصنف عمل أدبي على أنّه "ما بعد حداثي"، وإذا كانت هذه الحالة ماثلة في الأدب الغربي عندما يصرح إيهاب حسن في نهاية الثمانينات، أي بعد ما يقارب ثلاثين عامًا على الدعوة إلى تبني هذا المفهوم، بسؤال جوهري مفاده: "هل بمقدورنا حقًا تصور ظاهرة في المجتمعات الغربية عمومًا وفي آدابها على وجه الخصوص، يتعين تمييزها عن الحداثة، وينبغي منحها اسمًا؟". فإنّ ما هو أكثر إشكالية من ذلك أن يُبحث في تمثل هذه الحالة في الأدب العربي، وفي الشعر العربي على وجه التحديد، وهو شعر ذو تاريخ طويل، حافظ على شكله لأكثر من ألف عام.

بالطبع ليست المسألة بهذه البساطة التي ستغدو ساذجة إلى حدٍّ مفرطٍ إذا كانت الغاية التصنيف والحكم، ولكن يمكن للملاحظة الدقيقة، والإحساس الحاد ببعض الأعمال الكتابية التي يصعب تصنيفها، أنْ يظهرا حالة التمثل لسمات الكتابة الـ"ما بعد حداثية" في الأدب وملامحها، فأعمالٌ مثل: "الجواشن" لقاسم حداد وأمين صالح، و"الكتاب" لأدونيس قادرة على استدعاء حالة التفكير والإحساس بكل ما يتجاوز سمات الحداثة الأدبية على نحو صارخ. فالجواشن الذي يتجاوز أيّ صيغة معهودة في كتابة الأنواع الأدبية، قد جمع بين حسٍّ غنائيّ، وصبغة إنشادية ابتهالية، ونسقٍ ملحميّ، دون أدنى رغبة في تقرير شكل أدبي معروف أو الاقتراب منه، فلا يمكن – والحالة هذه – إلا أن يوصف هذا العمل بمحاولة تمثل وضع الكتابة الـ"ما بعد حداثية".

أمّا "الكتاب" لأدونيس فهو العمل الأكثر إثارة في الشعر العربي الحديث حتى الآن، ليس ذلك من حيث المشكلات التي يتأسس عليها فحسب، فليس مضمون العمل وحده مثيرًا وإشكاليًّا، وليست تسميته بـ"الكتاب" وتقاطعه مع كتب دينية، وتجارب أدبية حداثية كمخطط "مالارميه" غير المنجز في تأليف كتاب، هي – وحدها – التي تظهر غرابته، وتعدده، وانفتاحه، غير أنّ مشكلته الجذريّة تكمن في عدم رغبته في تقديم ذاته ضمن نسق ثابت يضمن هويته، فهو عمل مفتوح على خيارات وأبعاد عدة، على مستوى الزمان والمكان: "أمس المكان الآن"، وعلى مستوى ارتباطه بذات محددة: "مخطوطة تنسب إلى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس"، وعلى مستوى شكل الكتابة المتمثل بالأعمدة المتجاورة لتوزيع الأسطر على الصفحة الواحدة، مع مخالفة هذا الشكل بما دُعي بملاحق وهوامش وفاصلة استباق...، وكلّ ذلك دون أي ضمانة لأي طرف منها، وضمن علاقات متشابكة ومتضادة في آن، وكأنّ العمل برمته يَمْتثلُ للوضع الـ"ما بعد حداثي" للأدب على نحو فريد.

التعليقات (1)
champion
الثلاثاء، 12-11-2019 05:20 م
فقد ورد في القرآن الكريم من الآيات ما تبين خطر الدنيا، وما فيها من المتاع والشهوات، فهي واحدة من الموانع التي تمنع عن عمل الصالحات والتقرب إلى المولى جل وعلا بالطاعات. فالتعلق المذموم بالدنيا وغلبت حب القلب لها، وتفضيلها على الآخرة التي هي خير وأبقى، وهو الخطر الذي يعيق المسلم عن التقرب إلى الله تعالى بما يحب ويرضى من الأعمال الصالحات. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك عن الدنيا في معرض الذم، وبين أن ما فيها من زينة ومتاع ما هي إلا فتنة للناس وابتلاء لهم، فمن أخذ بما فيها من الحلال وترك المحرمات، ولم تلهه المباحات عن فعل الطاعات كان من الفائزين، ومن كانت الدنيا همه كان من الخاسرين. قال الحق تبارك وتعالى: ?زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ? [آل عمران: 14]. ففي هذه الآية يخبر الحق تبارك وتعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وغيرها من متاع الدنيا. وفي ذلك تحذير من الانخداع بما فيها فقد جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها، والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، وطلب الدنيا على طلب ما عند الله تعالى.(1) يقول سيد -رحمه الله-: وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى. إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض.(2) وبين القرآن الكريم أن زينة الدنيا ومتاعها قد يكون سبباً من أسباب الهلاك والخسارة في الدنيا والآخرة فقد قال سبحانه وتعالى على لسان موسى-عليه السلام- وهو يحكي حال فرعون وأتباعه. : ?وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ? [يونس: 88 .