انتهيت بالأمس من مشاهدة حلقات مسلسل "
الجاسوس" الذي عرضته شبكة نيتفليكس. وهو مسلسل يحكي قصة
إيلي كوهين، الجاسوس
الإسرائيلي الذي انتحل شخصية رجل أعمال سوري اسمه كامل أمين ثابت، وتمكن من اختراق طبقات حكام دمشق في مطلع الستينيات من القرن العشرين إلى أن وصل إلى رأس الهرم السياسي، فغداً من أقرب مستشاري رئيس الدولة أمين الحافظ ونائباً لوزير الدفاع في حكومته.
لا يوجد في المسلسل ما يخالف الوقائع الأساسية لحكاية هذا الجاسوس، على الرغم من احتواء المسلسل على قدر غير قليل من البهارات الدرامية بقصد الإثارة والتشويق، كما هو معهود في الأعمال الدرامية بشكل عام.
أكثر المشاهد صدماً كان آخرها، في نهاية الحلقة السادسة والأخيرة من المسلسل، عندما أخرج الجاسوس الصهيوني ليعلق على حبل المشنقة في ساحة المرجة بوسط العاصمة دمشق. لم يكتف مخرج المسلسل بالدراما، بل أتبع المشهد الدرامي بصور حقيقية للجاسوس وجثته تتدلى من المشنقة وقد علق عليها لوحة كبيرة كتب عليها بيان إدانته الصادر عن الحكومة.
ما يذهلك في حكاية إيلي كوهين، ليس قدراته الفذة في الاختراق، ولا المهارات التي توفرت لديه أو لجهاز المخابرات الإسرائيلي الذي وظفه وأرسله، وإنما حماقة وسفاهة وفساد الجهة التي تمكن بكل يسر من اختراقها على مدى ما يقرب من خمسة أعوام. وما كان ليتمكن من اختراقها والارتقاء إلى أعلى مستويات صناعة القرار فيها لولا أنها كانت سلطة هشة، لا قيمة فيها لا للوطن ولا للمواطن، سلطة لا تخضع لرقابة ولا تقيدها مرجعية، سلطة لا تزيد عن كونها عصابة من الأفراد المتنفذين، حفنة حقيرة من أصحاب المصالح والطموحات الشخصية، كانوا في سبيل تحقيقها يرفعون شعارات وطنية يخدرون بها الناس بينما هم عاكفون ليل نهار على نهب قوت أبناء الشعب، وعلى تحويل البلاد والعباد إلى مزارع خاصة لهم ولعائلاتهم والمقربين منهم.
عندما تدلى جسد إيلي كوهين (كامل ثابت) من حبل المشنقة خطر ببالي أن الذي كان ينبغي أن يتدلى من ذلك الحبل هو الشخص الذي قربه منه عندما كان ملحقاً عسكرياً في سفارة سوريا بالأرجنتين ثم حينما عاد وانقلب على الحكم وأصبح رئيساً قربه أكثر فأكثر وأمنه على أسرار الدولة ومكنه من إطلاع المسؤولين الصهاينة أولاً بأول على كل شاردة وواردة، بل وصل به الأمر إلى أن عينه نائباً لوزير الدفاع في حكومته.
يعيد مسلسل الجاسوس فتح جرح قديم غائر في جسد أمتنا من جديد. هؤلاء الذين يحكمون عالمنا العربي منذ ما يسمى بحقبة ما بعد الاستعمار (أو ما بعد الاستقلال كما يزعمون)، من هم، وكيف جاءوا إلى الحكم، وما هذا الذي جنته أياديهم علينا طوال ذلك الوقت؟ ولمصلحة من؟ وماذا كان دورهم في تمكين الكيان الصهيوني من ترسيخ أقدامه وتوسيع رقعته وتكريس هيمنته على صناعة القرار في العالم العربي من المحيط إلى الخليج؟
يا ترى كم إيلي كوهين عرفت عواصم العرب منذ ذلك الحين؟
سيظل إيلي كوهين بطلاً في نظر الصهاينة، وهو عندهم ربما يستحق أن يمنح أعلى الأوسمة على ما أنجزه لهم. أما الذين اخترقهم إيلي كوهين، وما كان ليخترقهم لولا فسادهم وهشاشتهم، فماذا يستحقون في نظر أبناء وطنهم؟
بينما كان إيلي كوهين يخدم أمته، كان الذين اخترقهم - من حيث يعلمون أو لا يعلمون - يمكنون أعداء الأمة منها.
إذن، لربما كان هؤلاء هم من يستحق فعلاً أن يعلق مكانه.