يبدو العالم اليوم كأنّه يختبئ خلف شجرة. تُذكّر الشجرة هنا بالحرب التي كادت أن تقع في شبه الجزيرة الكورية في العام 1976، حينما قَتل جنود شماليون مسلحون بالفؤوس؛ جنديين أمريكيين في المنطقة منزوعة السلاح، بعدما حاول جنود أمريكيون وجنوبيون ضمن وحدة تابعة للأمم المتحدة، تقليم شجرة ضخمة تحجب الرؤية في المنطقة، على إثر ذلك قادت الولايات المتحدة استعراض قوّة رافق قطع الشجرة بعد ثلاثة أيام على الحادثة.
غطّت الولايات المتحدة مهندسيها ومرافقيهم، قاطعي الشجرة، من جنود القوّة المشتركة.. بأسراب المروحيات وقاذفات "B52"، ومقاتلات "F4" و"F5". يمكن حينئذ أن نتخيّل الاحتمالات؛ لو أنّ الكوريين الشماليين أعادوا الكَرّة واستهدفوا "فريق قطع الشجرة"، ولا سيما بعد سلسلة حوادث سابقة؛ كان منها احتجاز سفينة تجسّس أمريكية في العام 1968، وإسقاط طائرة تجسس في العام 1969.
في أوقات التوتر والنزاع الكامن، يختبئ العالم خلف شجرة، وبقدر ما يبدو مضحكا أن تنفجر حرب كبرى بسبب شجرة، فإنه الوقائع التاريخية لا تنفي أن قشّة قد تقصم ظهر التوازنات الهشّة، وأنّ
الحروب قد ينجرف إليها من لا يريدها، وأنّها كثيرا ما لا تستند إلى دوافع عقلانية. وفي مراحل التحوّلات المتّسمة بالغموض الاستراتيجي والعجز عن ضبط التوازنات قد لا يجد العالم بدّا من الانفجار، ولو في مكان منه في تعبير منه عن سأمه من التوازنات العصيّة على التسويات، والمشكلات المفتقرة إلى حلولها.
الانقسامات داخل النخبة الأمريكية، وسباق التسلّح مع روسيا، والحرب الاقتصادية مع الصين، والوقوف على أبواب الركود الاقتصادي، وأزمات الاتحاد الأوروبي، وصعود اليمين في العالم، وظهور قيادات عالمية وإقليمية طائشة وتفتقر للكفاءة، وتخلخل الإقليم العربي وما يحيط به، واستمرار السيولة في محيط "إسرائيل"، واشتعال حروب الوكالة بالفعل أو الاحتكاكات الطرفيّة، ورخاوة الموقف الإستراتيجي في
الخليج، وتوسيع "إسرائيل" من حزامها الأمني مئات الكيلومترات عن حدودها.. ذلك بعضه بدأ منذ وقت، ولكنه، وسواه مما لم نَذْكُره، لم يزل يتزايد ويتعاظم ويتكثّف، وينفخ في أحشاء العالم الذي لن يعود قادرا على الاحتمال ما ظلّت القدرة على التسويات عاجزة.
أوضح ما تكون هذه السيولة تحت أقدامنا، وأبين ما تكون هذه الهشاشة في مرمى أبصارنا، وإذا كانت الثورات العربية قد لعبت الدور الأبرز في خلخلة الإقليم، وتفكيك ثوابته، وفتح أبوابه ونوافذه، بعدما كان مصمتا عصيّا على التحريك والتغيير، فإنّ العامل الإسرائيلي، أصالة، ثم بدخوله على خطّ بعض القيادات العربية، في محيط "إسرائيل" وفي الخليج العربي، والسعي للاندماج في تحالف.. لا يكرّس الوجود الإسرائيلي ويشرعنه فحسب، وإنّما يوسع، كذلك، من حزام الأمن الإسرائيلي، وبما يجعل، من الناحية الأمنية، المشرق العربي كلّه وحدة واحدة، وذلك كلّه دون نسيان العامل الأمريكي الأساسي، ولا سيما إدارة ترامب.
ثمّة صراع في الخليج، وحرب خليجية في اليمن، تتصل بها
إيران اتصالا وثيقا، وتوتر في مياه الخليج ناجم عن الحصار الأمريكي لإيران وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرضها موقفها على العالم، بمحض التسلّط الفاجر، بما يجعل من الحضور الإسرائيلي حضورا وطيدا. فالإجراء الأمريكي مطلب إسرائيلي، والدول الخليجية ذات الشأن تقود قاطرة التطبيع والتحالف مع "إسرائيل". والأخيرة تتحدث عن مشاركتها في تحالف أمني لحماية الخليج، وتثير الإشاعات حول احتمالية أن توجه ضربات في اليمن.
من جهة أخرى، تحضر إيران و"إسرائيل" في كل من العراق، وسوريا، ولبنان. وجّهت "إسرائيل" ضربات ثقيلة، وتتميز بالاستفزاز المفرط لهذه البلدان كلّها. تستهدف الضربات حلفاء إيران، وخططها، وربما بعض مراكزها وبناها التحتية الأمنية والعسكرية في هذه البلدان. وبالنظر إلى احتمالية الانفجار في أيّ من منطقتي الصراع الكبيرتين، الخليج، أو الحزام العراقي السوري، فإنّ "إسرائيل" تستعد فعليّا، تخطيطا وتجهيزا، لتلك الاحتمالية. فبطاريات الدفاع الجوّي باتت تُنصب هذه المرّة في المرتفعات الشرقية للضفة الغربية لأول مرة منذ انتهاء حرب الخليج الثانية، بالإضافة للاستعدادات المكثّفة في الشمال، والجنوب حيث غزّة، الجبهة المشتعلة باستمرار.
ثمّة ثلاث خلاصات يمكن الانتهاء إليها من هذا العرض الموجز، وهي الغموض الإستراتيجي الذي يلفّ العالم وما يحتويه من توازنات هشّة ومسببات متعاظمة للانفجار، واتساع الحزام الأمني الإسرائيلي بما يُدخل المشرق العربي برمّته في ظرف واحد، واتصال هذه المنطقة بمشكلاتها الضخمة والمتفجرة والمتحركة؛ بقوى دولية وأخرى إقليمية. وحين النظر إلى هذه الخلاصات، يصعب القول إنّ تسوية ما في الأفق، وإنما ينتظر الانفجارُ العواملَ التي تكتمل أسبابه بها.