هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليس هناك أدنى شك بأن الإنترنت تُعتبر واحداً من أعظم الإنجازات
المعرفية والإعلامية عبر التاريخ، إن لم تكن الأعظم، فمن هذه الشاشة الصغيرة التي
تبعد عن أرنبة أنفك عدة سنتيمترات تتفجر أكبر ثورة منذ بدء الخليقة. وبفضلها أصبح
كل واحد منا ناشراً رغم أنف حكومات القمع والحجر والتضييق والمراقبة وكبت الأنفاس،
هذا فيما كان يصعب في الماضي نشر كلمة أو كلمتين في وسائل الإعلام التقليدية بشق
الأنفس. الآن يستطيع أي شخص على وجه المعمورة أن يشتري جهاز كومبيوتر ويشترك في
خدمة الإنترنت، ومن ثم يبدأ بنشر ما يريد ليقرأه الملايين. إنه تحول تاريخي تعجز
الكلمات عن وصفه.
لم
يعد النشر حكراً على المتحكمين بأجهزة الإعلام من حكومات وأثرياء، بل غدا في
متناول الجميع من دون أي استثناء. لا عجب أن أصبح المدونون قوة إعلامية هائلة تهدد
عرش الإمبراطوريات الكبرى بالرغم من أنهم مجرد أفراد مسلحين بكاميرات صغيرة وأجهزة
كومبيوتر بسيطة وغرف لا تتسع إلا لكرسي وطاولة متواضعة.
لكن
«الحلو ما يكملش» كما يقول الأخوة المصريون، فكما أن الصحف أصبحت، عندما ظهرت
للمرة الأولى، مثاراً للسخرية والتهكم بعد أن عجّت صفحاتها بالتلفيقات والأكاذيب
والكلام الفارغ والدعايات المفضوحة، ها هي الإنترنت، على عظمتها، وقد أصبحت أيضاً
محط ازدراء الكثيرين واحتقارهم، لكن ليس لأنها وسيلة إعلام مسيّرة وموجهة كالصحف،
بل، من سخرية القدر، لأنها، على عكس الصحافة تماماً، تتمتع بحرية هائلة منفلتة لم
تتمتع بها وسيلة إعلام أو أداة معرفة من قبل على مر الزمان. وكما كنا نسخر من
محتويات بعض الصحف بأنها مجرد «كلام جرايد»، ها نحن وقد بدأنا نطلق الوصف ذاته على
محتويات الشبكة العنكبوتية، كأن نقول عن مواد الشبكة بأنها مجرد «كلام إنترنت»
للتدليل على عدم مصداقيتها وجديتها. وأتذكر أن أحد الزعماء وصف المعارضة الهزيلة
في بلده بأنها «معارضة إنترنت»، أي أنها مجرد صراخ إلكتروني أو ثرثرة عنكبوتية لا
أكثر ولا أقل.
لقد
وقعت الإنترنت فعلاً ضحية حريتها اللامحدودة لتصبح أقرب إلى الهزل منها إلى الجد،
فمن هذه الشاشة، كما يصفها البعض، «تقرأ عكس أي شيء في العالم، فتواجهك مئات
المواقع التي تمجد محاسن النازية والعنصرية وسلبياتها، وتقرأ تبريرات للإلحاد،
وتقع عيناك على عفن فكري يرى الشذوذ والاعتداء على الأطفال أموراً طبيعية. وتدشن
موقعاً إرهابياً تتحرك فوق حروفه سيارات مفخخة من الجهل والأمية الثقافية
والكراهية. وتتابع ملايين المواقع التي تدعو إلى الإباحية أو الإرهاب أو الفرقة
بين الأديان أو عودة الاستعمار أو إبادة أجناس بشرية، وستجد لكل زعماء الحركات
المناهضة لحقوق الإنسان والمساواة مؤيدين ومواقع المعجبين ، بل والمبررات
«المنطقية والعقلية» لأكثر المبادئ سفالة وحقارة ووضاعة.
من
هذه الشاشة تنتقد المقدسات ، وتسب الأنبياء، وترفض الإيمان بالله الواحد القهار،
وتكذب على تاريخ المصلحين، وتروّج لحكايات عفنة عن كتب تكدس عليها غبار الزمن فلا
تتصفحها إلا وتسقط صفحاتها بين يديك. من هذه الشاشة تبصق على الثقافة والكِتاب
والعلم وسيلتف حولك الجهلة كما يتجمع الذباب حول قصعة من الفضلات.
لقد
فقدت الوثائق القيمة قيمتها ومصداقيتها بمجرد وضعها على الإنترنت. فكم من الوثائق
والحقائق أصبح مشكوكاً في مصداقيتها ودقتها بعد أن انتشرت على الأثير الإلكتروني،
مع العلم أنها قد تتمتع بقدر كبير من الأهمية. فمثلاً بمجرد أن أفرجت الخارجية
البريطانية عن الوثيقة الشهيرة للمستر «همفر» التي يروي فيها قصة نشر الوهابية في
المنطقة العربية فقدت الوثيقة مصداقيتها وأصبحت، بعد انتشارها على الإنترنت
كانتشار النار في الهشيم، في نظر الكثيرين، مجرد تلفيق وافتراء على المذهب
الوهابي. ولا يستطيع أحد الآن إثبات صحة الوثيقة أو نفيها، لا لشيء إلا لأنها غدت
مادة إنترنتية مبتذلة.
حتى الصحف والإذاعات والتلفزيونات قلما تثق بأخبار الإنترنت وموادها.
فمثلاً عندما تعيد الفضائيات نشر شريط مصور لعملية تزعم إحدى الجماعات أنها قامت
بها مثلاً تضطر الفضائيات إلى التنويه بأن الشريط منشور على الإنترنت، وليست هناك
وسيلة للتأكد من صحته، أي أنه قد لا يكون حقيقياً، وبالتالي تضع إشارات استفهام
حول حدوث العملية، وكأنها بدورها تحذر المشاهدين من تصديق كل ما يجدونه على الشبكة
العنكبوتية. بعبارة أخرى فإن «كلام الجرايد» الذي كنا نسخر منه أصبح أكثر مصداقية
من «كلام الإنترنت»، فعلى الأقل يمكن اقتباس خبر من صحيفة من دون التنويه بعدم
القدرة على التأكد من صحته.
لا
ضير أبداً في أن تفتح الشبكة العنكبوتية أبوابها للتنكيت والتهريج والقص واللصق
والفكاهة والنميمة والقيل والقال طالما أن بعض الناس يميلون إلى تصديق أغرب
الأشياء وأكثرها مجافاة للحقيقة، فهذه قد تكون بهارات صحافية مطلوبة أحياناً من
القراء أنفسهم، لكن يُخشى في أن يصبح الهزل السمة العامة للإنترنت بعد أن غدت أشبه
بمكب هائل، أو حاوية نفايات، فتفقد قيمتها كأعظم فتح إعلامي في التاريخ. يقول الإنجليز
إذا كانوا غير متأكدين من صحة خبر ما: «لنأخذه مع «قبصة ملح»، أي أن لا نصدقه
تماماً. وأرجو أن لا يجد مرتادو الشبكة العنكبوتية أنفسهم في يوم من الأيام مضطرين
لأخذ مواد الإنترنت وأخبارها مع صاع ملح.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية