قضايا وآراء

الجولة الأخيرة بالمسجد الأقصى: الباب الذهبي والقبة الذهبية والفرصة الذهبية

حمزة الحلايبة
1300x600
1300x600
لقد شكل التصعيد الأخير الذي قامت به سلطات الاحتلال الإسرائيلي في باحات المسجد الأقصى، وخصوصا في منطقة باب الرحمة، أو "الباب الذهبي"كما يسمى في الثقافة الغربية، شكل خطوة خطيرة في فرض وقائع جديدة في السيادة على المسجد الأقصى المبارك، لتحقيق الهدف الاستراتيجي في التقسيم الزماني والمكاني للمسجد المبارك؛ الذي يعتبر من أهم الأماكن المقدسة بالنسبة للمسلمين.

ومن الواضح أن سلطات الاحتلال تستخدم أسلوب التصعيد التدريجي نحو هدف عقائدي احتلالي معلن منذ زمن بعيد، وهو إقامة "هيكل يهودي" مكان المسجد الأقصى أو في جزء منه، أو ما يسمونه "جبل الهيكل". ولم يعد حائط البراق الغربي المحتل (أو كما يسمونه حائط المبكى) مكاناً دينياً كافياً ليكون معبدا يهوديا في قلب القدس، حيث بدأت أطماعهم تتصاعد وتتجه إلى الحائط في الناحية الشرقية للمسجد. ويظهر ذلك جليا من خلال المسار الدائري حول قبة الصخرة "القبة الذهبية" لاقتحامات المستوطنين، حيث يبدأ هذا المسار من باب المغاربة وينتهي به أو بباب السلسلة، مرورا باستراحة تعبدية في باب الرحمة (الذهبي).

ان التكتيك الدقيق الذي تستخدمه المؤسسة الإسرائيلية في هذا التصعيد التدريجي؛ يأخذ بعين الاعتبار، إضافة إلى البعد العقائدي، الوضع الجيوسياسي للمسجد الأقصى، والحالة السياسية الداخلية والخارجية في المنطقة. فمن الناحية الجيوسياسية، تم إحكام خطة العزل الإسرائيلية (خطة شارون) المعلنة عام 2002 حول مدينة القدس الكبرى، وتطويقها بجدار الفصل العنصري والاستيطان والحواجز العسكرية، وقلب الواقع الديموغرافي فيها إلى أغلبية يهودية، وتم قضمها جغرافيا من الضفة الغربية إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وتم منع معظم السكان الفلسطينيين من الوصول إليها.

ومن ناحية أخرى، فإن واقع القضية الفلسطينية وصل إلى مرحلة ضعف سياسي غير مسبوق، من وهن الحراك الشعبي، وإحكام السيطرة الأمنية، وتشتيت الفصائل الفلسطينية والحصار الخانق لقطاع غزة والانقسام الجغرافي والسياسي الفلسطيني، والأزمات الاقتصادية المتتابعة، والتي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى مرحلة صراع البقاء ولقمة العيش. ومن جانب آخر، فُرضت على الشعب الفلسطيني خطة اقتصادية رأسمالية سهلت وربطت أغلبية الفلسطينيين بالقروض البنكية، مستغلة بذلك حالة الظلم والحرمان والتعطش للدنيا؛ لشعب لا يزال يصارع باحثا عن حقوق أساسية من الاستقرار والسكن الكريم وتكوين أسرة وامتلاك سيارة، أسوة بباقي شعوب العالم. وقد كان الحال في قطاع غزة أشد فتكاً بشعب يعاني من حصار خانق منذ 13 عاما، وخاض ثلاثة حروب مدمرة خلال عقد واحد أمام جيش من أقوى جيوش العالم، وحمل همّ القضية الفلسطينية في مرحلة زمنية خطيرة وصعبة، حتى أصبح أكبر همّ الغزيين الحصول على الماء والكهرباء والغذاء.

إن حالة الضعف في الجبهة الداخلية الفلسطينية قابلتها حالة من التخاذل العربي، لدرجة الارتماء في أحضان التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، تزامنا مع حالة من عدم الاستقرار والاستنزاف الداخلي لبعض الدول العربية وانشغالها في صراعاتها الداخلية، ومحاربة النشطاء وأصحاب الفكر المناصر للقضية الفلسطينية (عن قصد أو غير قصد)، والذين شكلوا في يوم من الأيام درعاً حامياً للقضية الفلسطينية.

لقد شكل هذا المشهد من حالة الضعف والهوان في جسد الأمة "فرصة ذهبية" للاحتلال، ليبدأ في خطوات تصعيدية تعبث في قلب الأمة (المسجد الأقصى). فبعد الاقتحامات اليومية للمستوطنين لساحات المسجد، يجري حاليا التركيز على منطقة باب الرحمة ومحاولة السيطرة عليها والتي تشكل حوالي 15 في المئة من مساحة المسجد الأقصى، حيث تتم فيها مؤخرا وقفات تعبدية من المقتمحين اليهود للصلاة والدعاء، مستقبلين مسجد قبة الصخرة، ومعلنين اعتقاداتهم الدينية بأن هذا الباب سيكون مدخلا للمسيخ الذي ينتظرونه ليدخل منه إلى "جبل الهيكل" المزعوم، حيث أن خطر الاستهداف (فيما يبدو) هو لمسجد قبة الصخرة المشرفة، والتي تعتبر بوابة السماء وتشكل أعلى وأبهى أجزاء المسجد الأقصى، ومنها عرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، في حادثة الإسراء والمعراج.

وعلى الصعيد الدولي، تحاول جماعات يمينية صهيوأمريكية، ومن خلال استخدام مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان في ممارسة "حرية العبادة"، أن تستخدم الإعلام الغربي للترويج بأن "قدس الأقداس" يجب أن لا تبقى حكرا على المسلمين، وإنما من حق باقي الأديان السماوية العبادة فيها، خصوصا أنها المكان الأقدس للديانة اليهودية على حد زعمهم، متجاهلين خصوصية المكان كمسجد مهم للمسلمين عبر التاريخ منذ آلاف السنين، وبالتالي الدخول في صدامات وصراعات دينية وفكرية قد تشعل المنطقة بأكملها.

ويبدو أن بعض القيادات العربية قد دخلت إلى قناعاتها (للأسف)؛ أن تقسيم الأقصى من شأنه أن يأتي بالسلام إلى المنطقة ويطفئ نيران الحروب، من خلال حلول سياسية وتنازلات تضمن حرية العبادة للجميع، وبتواجد أمني دولي مشترك، كما يرشح من تسريبات صفقة القرن، لكن الوقفة الشجاعة والمتجددة للمقدسيين، ومن خلفهم الشعب الفلسطيني، في دفاعهم عن الأقصى، بالرغم من محاولات الاحتلال فرض الوقائع بالقوة العسكرية، دائما ما يعطل مخططات الاحتلال المستمرة في مدينة القدس.

ان أمانة القدس والمسجد الأقصى هي شرف لكل عربي وكل مسلم، ولا يجوز التهاون في بذل أي جهد في الدفاع عنها. وعلى الحكومات أن تستجيب للنفس الشعبي والجماهيري الرافض للتساوق مع صفقة القرن وتقسيم الأقصى، حيث يقع الحمل الأكبر في حمل هذه الأمانة والمسؤولية على الحكومات ثم الشعوب العربية والإسلامية، كل بحجم مسؤوليته. كما أن أية مراوغات سياسية قد تؤدي إلى تنازلات على حساب الثوابت الفلسطينية، والتي من أجلها ناضل الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 70 سنة، وضحى من أجلها الشهداء والقادة والجرحى والأسرى والمبعدين؛ سيأتي بنتائج مدمرة وخطيرة على من يتساوقون مع هذه المقترحات، حيث أن تقديرات الاحتلال ومن يدور في فلكه بخصوص ردات الفعل الشعبية تكون دقيقة دائما، إلا في حالة المساس في واقع المسجد الأقصى، والتاريخ الماضي والمعاصر شاهد على ذلك. فعند الأقصى لا يمكن التنبؤ بحجم الزلزال الذي سينتج على المستوى الفلسطيني أو على مستوى العالم الإسلامي، فشعبنا وأمتنا قد تتهاون وقد تضعف، لكن حصانة هذه المدينة المقدسة تأتي من الله أولاً، ثم من الأحرار والمؤمنين في هذا العالم الكبير الذين يعتبرون أن ضياع القدس هو ضياع للكرامة!
التعليقات (0)