هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت
المؤلف: شفيق الغبرا
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
سنة الإصدار: 2018
كثيرة هي الكتب التي عالجت أحداث "النكبة"، ووثقت تفاصيل الكارثة التي دمرت حياة الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1948.
لكن الكتب التي تتناول صمودهم واجتراحهم أشكالا جديدة للحياة تبقى أقل، سيما تلك المتعلقة بنشاطهم في ساحات اللجوء والشتات، التي أسسوا فيها كيانات اجتماعية واقتصادية معتبرة، ساهمت بشكل استثنائي ولافت في الحفاظ على ارتباطهم بفلسطين وبقضية التحرير.
الكويت كانت مكانا لإعادة لم شمل الطبقة الوسطى ونشوئها ما بعد النكبة، وقدمت للشعب الفلسطيني ما لم تستطع أن تقدمه أي دولة أخرى
حول واحدة من أهم وأبرز ساحات الشتات الفلسطيني، أو كانت كذلك، يدور كتاب شفيق الغبرا "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت". والحديث عن الكويت، التي كانت تحتضن نحو 400 ألف فلسطيني في العام 1990، يفتح الباب على ذكريات وتاريخ، يبدأ من منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، تقاطعت فيه المساعي النبيلة والأحلام، والانكسارات والخيبات أيضا.
ورغم أن الفكرة الأساسية للكتاب تبحث في الآليات التي مكنت الفلسطينيين في الكويت من الحفاظ على روابطهم الاجتماعية والوطنية، فإنه لا يمكن فصل ذلك عن شروط المحيط الذي تفاعل فيه ومعه هذا الحراك الاجتماعي المميز، فكيف وقد انتهت فصول هذه العلاقة بشكل مأساوي وصادم، لم يترك في الكويت أكثر من 30 ألف فلسطيني.
لماذا الكويت؟
كتاب الغبرا كان قد صدر بصيغته الأولى باللغة الإنجليزية في العام 1987 بعنوان"الفلسطينيون في الكويت.. العائلة وسياسات البقاء"، وهو بالأساس موضوع أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراه من جامعة تكساس في أوستن. لكن مع تطور الأحداث، وتغير الظروف، خاصة بعد العام 1990، أجريت بعض التعديلات على متن الكتاب باللغة العربية، وأضيف إليه فصلان: غزو العراق للكويت والفرص الضائعة، وإعادة إنتاج الشتات الفلسطيني والمستقبل.
يناقش الغبرا في كتابه فكرتين أساسيتين: الأولى هي دور الشبكات الاجتماعية في حماية الشعب الفلسطيني من الاندثار والتفتت، بعدما تعرض جزء كبير منه للتهجير، ودمرت بناه الاقتصادية وأنماط عيشه التقليدية.
والثانية هي السياق التاريخي الذي جعل من الكويت، في الوقت نفسه لوقوع الكارثة، مكانا مثاليا لاستيعاب شتات فلسطيني أنتج آليات جديدة للبقاء، وأسهم بفعالية في بناء وتطوير الدولة الوليدة.
خلال فترة الاحتلال العراقي للكويت كان أكثرمن 200 ألف فلسطيني قد غادروا الكويت بالفعل، وبعد التحرير لم يكن متبقي من الجالية سوى 150 الفا، انتهى بهم الحال إلى 30 الفا فقط.
البحث عن عمل كان هدف وسبيل جيل كامل من الفلسطينيين، للنهوض من تحت ركام النكبة، وإنقاذ عائلاتهم من الفقر.
لذلك انتقل الآلاف منهم من أصحاب الخبرة والنخب المتعلمة إلى مناطق مختلفة من العالم العربي، ومن ضمنها الكويت.
يرى الغبرا أن اختيار المئات من الفلسطينيين الذهاب إلى الكويت لم يكن غريبا "إذ كانت الأكثر انفتاحا في منطقة الخليج.. والأكثر قومية وعروبة، واستعدادا للتقدم والنهوض منذ عقود ما قبل النفط".
وفي هذا السياق يذكر أن الشيخ أحمد الجابر كان قد طلب في العام 1936 من الحاج أمين الحسيني إرسال بعثة تعليمية لإدخال التعليم الحديث إلى الكويت، وهو ما حدث بالفعل.
أضف إلى ذلك أن "النخبة الكويتية وجدت في مجيء الفلسطينيين العرب تدعيما وأساسا مساهما في الحفاظ على عروبة الكويت في ظل عملية التحضير لاستقلالها عن بريطانيا".
يقول الغبرا: "إن الكويت كانت مكانا لإعادة لم شمل الطبقة الوسطى ونشوئها ما بعد النكبة، وقدمت للشعب الفلسطيني ما لم تستطع أن تقدمه أي دولة أخرى في تلك الحقبة الحساسة والصعبة من خمسينيات وستينيات القرن العشرين".
روّاد مؤسسون
يستند الغبرا في رواية تاريخ تلك المرحلة على العديد من المقابلات الشخصية، التي أجراها أثناء إعداد المادة الأولى لكتابه، لذلك ستحفل صفحاته بقصص رواد مؤسسين في مجالات متنوعة كالتعليم، والطب، والهندسة، والأعمال التجارية، الذين بدأوا عملهم كموظفين في القطاع العام، وبعد سنوات نجحوا في تأسيس مؤسساتهم ومصانعهم وشركاتهم الخاصة، التي امتد نشاط بعضها إلى دول أخرى.
كما ستضم صفحات الكتاب قصص المهنيين والعمال، ومعظمهم من أبناء القرى أو فقراء المدن، ممن شكلوا الدفعة الثانية من القادمين إلى الكويت. مهنيين وأصحاب خبرات بسيطة تمكنوا بتشجيع ومساعدة الفلسطينيين الذين سبقوهم إلى الكويت من تطوير مهاراتهم في زمن قياسي وإثبات كفاءتهم.
يؤكد الغبرا أن "المصدر الأهم لتوظيف السواد الأعظم من القرويين الواصلين إلى الكويت تحقق أساسا بفضل جهد المسؤولين الحكوميين الكويتيين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية.." ويقول إن قادة الكويت "وجدوا في الهجرات الفلسطينية الأولى عنصر قوة لا عنصر إضعاف، وإضافة نوعية لمشروعهم الوطني العربي لا عبئا عليه".
ويلفت الغبرا إلى أن الإحساس بالمسؤولية، والالتزام بالمعايير المهنية، والعمل الجاد، شكلت جميعا الأساس الصلب الذي بنيت عليه العلاقة بين الوافدين الفلسطينيين من جهة، وبينهم وبين الدولة المضيفة من جهة أخرى.
ويشير إلى أنه بين عامي 1948 و1965 كان 48% من موظفي القطاع العام في الكويت من الفلسطينيين، وفي القطاع الخاص شكل الفلسطينيون ما نسبته41% من مجموع الموظفين.
وجد قادة الكويت في الهجرات الفلسطينية الأولى عنصر قوة لا عنصر إضعاف، وإضافة نوعية لمشروعهم الوطني العربي لا عبئا عليه".
يذكر الغبرا بعض الأمثلة على المساهمات المهمة للفلسطينيين في مسار التنمية في الكويت فيشير إلى تأسيس أول محطة إذاعية حديثة على يد محمد الغصين من الرملة، وتأسيس أول دائرة حديثة للإقامة وجوازات السفر في عام 1949 على يد هاني القدومي، الذي أطلق لاحقا شركة رائدة في تسويق المعدات الطبية والأدوية، فضلا عن العشرات من المدرسين والمدرسات الذين طوروا المناهج التعليمية.
كما شغل العديد من الفلسطينيين مناصب دبلوماسية في الدولة، وتولى بعضهم مناصب أمنية، وامتدت مساهماتهم تقريبا إلى جميع القطاعات فشملت الصحة، والهندسة، والجيش، والزراعة.
مجتمع جديد
ولأن هاجس التعليم كان مسيطرا على الفلسطينيين فقد استثمر العديد من العاملين في الكويت مدخراتهم المالية في متابعة الدراسة في الخارج، أو في دعم أقربائهم في فلسطين للحصول على الشهادة الجامعية.
في كل ما سبق ومن بعد ذلك ظلت الصلات العائلية والروابط القروية، ومشاعر التضامن، محركا فاعلا في تأسيس مجتمع فلسطيني جديد في الكويت، "تتقاطع فيه العلاقات بين الفلاحين وأبناء المدن". فكل وافد جديد كان حريصا على مساعدة قريب له للحاق به، ومع سماح الكويت في ما بعد باستقدام العائلات، بدأت تتشكل تجمعات وأحياء سكنية، قد تضم الواحدة منها المئات من أبناء بلدة ما.
حرص الفلسطينيون على نقل تاريخ بلادهم وتراثهم إلى أبنائهم الذين ولدوا خارج فلسطين، واستغلالهم المناسبات الاجتماعية لتعريفهم بأقاربهم
ويفرد الغبرا فصلين من كتابه لشرح الآليات التي أتاحت للفلسطينيين في الكويت تشكيل شبكات عائلية جديدة، مختلفة عن تلك التقليدية التي كانت سائدة في الوطن الأم، لكنها من جهة أخرى معززة لها، وحامية للهوية وللترابط بين أبناء الشعب الواحد في الشتات. تمثلت هذه الآليات ابتداء بمشاركة السكن في الكويت إلى حين، كشكل من أشكال الدعم والمساعدة، والحرص على تبادل الزيارات، والمشاركة في المناسبات الاجتماعية المختلفة، والمحافظة على معظم الطقوس التقليدية لهذه المناسبات، كالزواج، والتخرج، والوفاة، وتقديم الدعم المعنوي والمادي لأصحاب المناسبة، والعمل دائما على حل الخلافات في الإطار العائلي بعيدا عن اللجوء للقضاء.
ويشير الغبرا إلى حرص الفلسطينيين على نقل تاريخ بلادهم وتراثهم إلى أبنائهم الذين ولدوا خارج فلسطين، واستغلالهم المناسبات الاجتماعية لتعريفهم بأقاربهم.
كما يلفت إلى دور الجمعيات والصناديق العائلية التي حمت الفلسطينيين من العوز ودعمت تكاليف الحياة والدراسة للعديدين منهم، مشيرا إلى أن الكثير من مؤسسي هذه الجمعيات كان لهم تاريخ سياسي ونضالي، ورغم اختلاف التوجهات السياسية للفلسطينيين فإنها لم تكن لتعيق تعاونهم لخدمة أبناء شعبهم في الشتات.
نكبة جديدة
"في تاريخ الشعوب المنكوبة لا يوجد ضمان ثابت للاستقرار، كذلك هو الأمر في تجربة الشتات الفلسطيني في الكويت".
بهذه العبارة بدأ الغبرا الفصلين الأخيرين من كتابه، وفي محاولة منه لتفسير وفهم، لا تبرير، ما وقع خلال الغزو العراقي للكويت وبعده، يشرح كيف تطورت المخاوف ومشاعر القلق عند الطرفين؛ الدولة الكويتية، والجالية الفلسطينية، تجاه بعضهما البعض، منذ منتصف السبعينيات.
بدأت المخاوف الكويتية بعد حرب الـ 1973 وما تبعها من تطورات سياسية، تمثلت في احتمال التوصل إلى تسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي قد يفرض توطينا للجالية الفلسطينية الكبيرة في الكويت، فضلا عن تصاعد المخاوف الأمنية نتيجة تورط الفلسطينيين في الحرب الأهلية اللبنانية، وارتباط العديد من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بعلاقات مع المعارضة السياسية الكويتية، تبع ذلك في الثمانينيات ظهور جيل جديد من الخريجين الكويتيين الذين وجدوا في الحضور القوي لأبناء الجالية الفلسطينية عنصر منافسة، منعهم من تولي الكثير من المناصب والارتقاء في الوظائف.
خشي الكويتيون من أن احتمال التوصل إلى تسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي قد يفرض توطينا للجالية الفلسطينية الكبيرة في الكويت