كتاب عربي 21

الشيخ كشك.. قصة حوار وحكايته مع السادات (2)

سليم عزوز
1300x600
1300x600
سأل المحقق الشيخ عبد الحميد كشك: لماذا تهاجم الفنانة نيللي؟!.. ويوحي السؤال كما لو كانت ذات نيللي مصونة لا تمس!

كان الشيخ ممن شملتهم اعتقالات أيلول/ سبتمبر 1981، والتي شملت كل ألوان الطيف السياسي، من فؤاد سراج الدين إلى محمد حسنين هيكل، ومن الشيخ كشك إلى نوال السعداوي، وقد شملت المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين عمر التلمساني، إلى جانب البابا شنودة.

كان المعلن أن عدد المعتقلين هو أكثر من 1300 معتقل، في حين أن هناك من يقول أن العدد الحقيقي تجاوز الخمسة آلاف شخص. وبعد هذه الاعتقالات بشهر، قُتل السادات!

ليخفف الرئيس الراحل من حدة القرار، فقد سمى إجراءاته "قرارات التحفظ"، ولم يسمها "اعتقالات"، حيث تم التحفظ على المعارضين في السجون، بينما كان التحفظ على البابا في أحد الأديرة، بعد قرار السادات بعزله وتعيين لجنة باباوية مشكلة من خمسة من رجال الكهنوت. وهي إجراءات أفرزتها حالة الغضب التي تمكنت من السادات حيال معارضيه، وكان معارضوه في غضب شديد منه. ووصف محمد حسنين هيكل هذه الأيام بـ"خريف الغضب"!

"السادات يشطح"

ولم يجد السادات ما يبرر به ما فعل، فأرجع قرارات التحفظ إلى ما وصفه بأحداث الفتنة الطائفية. وعقب الإفراج عنه، قال الشيخ أحمد المحلاوي، الذي وصفه السادات في خطابه الأخير بـ"المرمي في السجن زي الكلب": وما هي علاقة فؤاد سراج الدين (رئيس حزب الوفد) بالفتنة الطائفية أصلا؟!

وقال خالد الإسلامبولي، زعيم عملية اغتيال السادات، في معرض ذكره للأسباب التي دفعته لاغتيال الرئيس: لأنه قال عن أحد العلماء "أنه مرمي في السجن زي الكلب"!

وقد أفزع هذا الحديث كثيرين، حتى من الدائرة الضيقة للسادات، ومن بينهم قرينته السيدة "جيهان"، التي قالت أنه أفزعها هذا الحديث وهذا الوصف الذي أطلقه السادات على الشيخ المحلاوي. وهناك من يرجع غضب السادات الشديد على "المحلاوي"؛ إلى أن التقارير الأمنية التي رفعت إليه أفادت أن الشيخ يتعرض لزوجته من فوق المنبر، وأنه وصفها في خطبه بمسجد القائد إبراهيم بالاسكندرية بـ"سيئة مصر الأولى"، وكان يطلق عليها "سيدة مصر الأولى". وفي مقابلة صحفية عقب الإفراج عنه، نفى الشيخ المحلاوي أن يكون قد تعرض لها بهذا الوصف، وقال إنها وشاية من مباحث أمن الدولة.

والحال كذلك، فقد كان سؤال المحقق للشيخ كشك: لماذا تهاجم الفنانة نيللي؟ وأجاب الشيخ بأن الناس صاروا يعرفون رمضان بفوازيرها التي تقدمها في التلفزيون في هذا الشهر الفضيل. وقد تعرض السادات في خطابه الأخير للشيخ كشك أيضاً، لكن على طريقته المعهودة، فقد كان خياله يشطح كثيراً، ويضع سيناريو لوقائع لم تحدث أبداً.

عنما رفض العالم استقبال شاة إيران وظلت طائرته عالقة في الجو، ترفض كل مطارات العالم استقبالها بعد قيام الثورة الاسلامية، استقبله السادات، والذي وجد أن الرأي العام الغاضب لن يتقبل الدوافع الإنسانية في القرار، فقال إنه فعل هذا لأن شاه إيران وقف مع مصر في حرب أكتوبر ضد إسرائيل، ولم يكن هذا صحيحاً.

مع النميري

في خطابه الشهير، ذهب خيال السادات بعيداً، وهو يتحدث عن الشيخ كشك، فالرئيس السوداني جعفر النميري سأله إن كان الشيخ كشك يعرفه، ليرد السادات عليه بأنه لا يعرف إن كان الشيخ يعرفه أم لا، لكنه سأله عن السبب وراء سؤاله، ليروي على لسان النميري ما علق عليه السادات بأنه "كمان بيعمل فتنة في دول الجوار"!

قال النميري إن الإسلاميين في الخرطوم نشروا أن الشيخ كشك قادم من القاهرة لإلقاء محاضرة في أحد المساجد بالسودان، وحددوا الموعد، وعندما احتشد الناس في انتظاره، قالوا لهم إن السلطات السودانية منعت الشيخ من دخول السودان، فقاموا بمظاهرات عارمة. وقد أكد النميري أن سلطات بلاده لم تمنع الشيخ عبد الحميد كشك من دخول الأراضي السودانية أصلاً!

عندما التقيت بالشيخ كشك سألته عن هذه الواقعة، فقال إن أحمد يحيي صاحب "المكتب  المصري الحديث"، وهو ناشر سلسلة كتبه "مكتبة الشيخ كشك"، زاره في السجن، وكيف أن الشيخ عاتبه لأن صديقه النميري وشى به لدى الرئيس، وذكر له واقعة لم تحدث أصلاً، فلا هو تلقى دعوة لزيارة السودان، ولا هو قال إن سلطات السودان منعته من دخول الخرطوم، لكن كانت المفاجأة بأن أحمد يحيي سأل النميري عن صحة الواقعة، والذي أبدى دهشته لأن الرواية التي ذكرها السادات منسوبة للرئيس السوداني لم تحدث ومختلقة من الألف إلى الياء، فلم يقل له النميري شيئاً مما قال!

ويبدو أن غضب السادات على الشيخ كشك مرده إلى أمر آخر، بحسب ما جاء في مذكراته التي صدرت في منتصف الثمانينيات وقرأتها فور صدورها، وقد عكفت عليها فانتهيت منها في يومين. وهي سيرة ذاتية للشيخ لم يُكتب لها الانتشار؛ لأسباب أظنها مرتبطة بدار "المختار الاسلامي" التي أصدرتها، وهي دار نشر إسلامية قديمة ومتواضعة الإمكانيات!

تحدثت عن المذكرات بعد ذلك بسنوات مع الناشر "أحمد رائف"، صاحب دار الزهراء للإعلام العربي، فسألني في دهشة: هل أصدر الشيخ عبد الحميد كشك مذكراته فعلا؟ وكان الشيخ قد نشر فيها بعض الصفحات من كتابه "البوابة السوداء" الذي يروي فيه "رائف" ما جرى في سجون عبد الناصر. وكان الشيخ واحداً ممن استضافتهم هذه السجون!

فيروي الشيخ كشك في سيرته الذاتية أن شابين من مكتب المشير عبد الحكيم عامر، قاما بزيارته في منزلة في ليلة الجمعة، وطلبا منه أن يهاجم من على المنبر الشيخ سيد قطب ويعلن كفره وردته، وهو إن فعل فسوف تفتح أمامه أبواب الترقيات والسفر للخارج، مع التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يفعل. وظل ليلته يفكر في هذه الجرأة على دين الله، لكنه في خطبة الجمعة، لم يفعل ما أمراه به، فكان اعتقاله في سجن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود؛ لأنه رفض الانصياع لرغبة النظام بالهجوم على رجل تم إعدامه بعد ذلك!

دعوة من الرئيس

من شاهد السادات وهو غاضب على الشيخ كشك في خطابه بعد اعتقاله، حد فبركة واقعة لم تحدث، لا يمكن أن يصدق أنه هو من طلب في ساعة صفاء، ولحظة تجل، من الإعلامي أحمد فراج أن يستضيف الشيخ كشك في برنامجه "نور على نور"، بعد أن ذاع اسم الشيخ الشعراوي بفضل هذا البرنامج. وكانت استضافة الشعراوي في البرنامج هي مقترح للسادات نفسه، ولم يأبه بتقرير إذاعي يفيد بعدم استضافته لأن صوته ليس إذاعياً!

والسادات هو من اقترح أن يتعاون الموسيقار بليغ حمدي مع المنشد الديني الشيخ سيد النقشبندي، فكان ألبوم "مولاي إني ببابك قد مددت يدي"!

لقد تحفظ الإعلامي أحمد فراج على مقترح السادات باستضافته الشيخ كشك في برنامجه، وقال إن أداءه خطابي، والبرنامج التلفزيوني يحتاج إلى متحدث لا إلى خطيب، ومن ثم لم يكتب لهذا المقترح التنفيذ!

بيد أن السادات اعتقل الشيخ كشك بعد ذلك بسنوات، وتقوّل عليه. صحيح أنه لم يكن غاضباً منه بنفس درجة غضبه من الشيخ أحمد المحلاوي، لكنه في الأخير كذب عليه وعلى الرئيس النميري في واقعة اختلقها خياله. ولم يكتب الشيخ في مذكراته الحوار الذي تم بينه وبين الناشر أحمد يحيي في السجن، والذي نقل له نفي جعفر النميري لما قاله السادات جملة وتفصيلا، لكنه ذكرها لي وأنا أحاوره في منزله.

لقد كتب في مذكراته ما فهمت أنه سبب غضب السادات عليه، إذ تلقى الشيخ كشك خطاباً على المسجد، لم يتذكر فتحه، وعندما فتحه كانت مناسبته قد مرت، فقد كان الخطاب يحمل دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور لقاء مع الرئيس، فقال حمدت الله إنني لم أحضره؛ لأنه اللقاء الذي شهد مواجهة بين المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين والسادات، قال الأول: أشكوك لله، فرد الثاني: اسحب دعواك يا عمر.. إلى آخر ما جرى في هذه المواجهة!

وقد التقى الشيخ كشك بعد ذلك بشيخ الأزهر، الشيخ عبد عبد الرحمن بيصار، الذي سأله، لماذا لم تأت؟!.. لقد كان الرئيس طوال الوقت يسألني ونحن على المنصة: هل جاء الشيخ كشك؟! وبدا ضجراً لعدم تلبيتك دعوته.

وقال شيخ الأزهر له: ألا تعلم أننا نعيش في معية سيادة الرئيس؟!.. لكن الشيخ كشك هب واقفاً وهو يردد قوله تعالى: "إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين".

عندما سألت الشيخ كشك: ما هو قولك في ما هو منسوب اليك بأنك لا تلتزم بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأنك أسلوبك في الخطاب يقوم على السب والقذف؟ قال: لكل مقام مقال، هو ربنا عندما قال "كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث". كان بيشتم؟!.. "كمثل الحمار يحمل أسفارا". كان بيشتم؟!

وأردف: لقد كانت خطبة الجمعة تستغرق قرابة الساعة، فمن يمكنه أن يصعد المنبر ويظل ساعة يشتم، ويا ولاد كذا يا ولاد كذا.. دا يبقى متخرج من كلية الشتيمة! لكن معظم من يتقولون علي لم يسمعونني، ولم يتبينوا!

قلت له: لقد جئت لكي أتبين؟!

رد: أهو كده.

رحم الله الشيخ كشك.
التعليقات (0)