بطبيعة الحال، وأنا ممنوع من السفر، فلن يتاح لشخص مثلي أن يقابل الأستاذ
جمال خاشقجي – رحمه الله - ولكني كنت قادرا على بناء تصور يبدو دقيقا إلى حدّ ما عن شخصيته بالغة التهذيب والهدوء والتسامح، بالرغم (كما هو شأن هذه الدنيا) من اختلافي معه في جملة من أفكاره ومواقفه، ولعلي الآن مرتاح لأنني لم أكتب – فيما أذكر - شيئا في الردّ عليه أو في مجادلته، وهو ما يذكّرني بنصيحة أسداها لي في رسالة خاصة في موقع تويتر؛ قال فيها: "كثرة الجدل تورث العداء يا صديقي".
كانت تلك
دعوة مهذّبة منه، للكفّ عن مجادلة صحفيّ مصريّ تضرّر من نظام السيسي، بيد أنني وإن أظهرت تعاطفي مع ذلك الصحفي، فإنني دعوته لمراجعة مواقفه من انقلاب السيسي التي بدت ساعة الانقلاب منحازة إليه، فمراجعة المواقف، والاعتبار بها، مطلوب منّا بشكل شخصي، لا سيما نحن المشتغلين بالحديث في الشأن العام، كما هو مطلوب من الجماعات والكيانات الفاعلة، هذا عدا الضرورة
الأخلاقية في ذلك.. فحظرني ذلك الصحفي بعد أن أعطاني درسا في الديمقراطية واتهمني بالشماتة.
قال لي
جمال خاشقجي: "تسامح، وما حصل حصل"، ثم لما أبديت له وجهة نظري فيما حصل، قال: "قدّر ظرفه وخسارته". الآن: وبصرف النظر عن أصل هذه الحكاية، التي استدعت تلك النصيحة الرقيقة اللطيفة، فإنّني أتساءل: كيف لو أتيح لخاشقجي أن يقرأ ما يقوله عن جريمة مقتله الكثيرون، من كتاب
وزملاء مهنة ومشايخ وشخصيات عامّة، من أبناء بلده ومن غيرها، جمعته صداقة ببعضهم، أو كانت له سابقة دفاع عن بعضهم، وهم لا يكتفون - الآن - بالتغافل عن الجريمة، وإنما
يتلطّخون بدمه تقرّبا إلى الحاكم، أو دفاعا - كما يزعمون - عن وطنية، في غاية الشذوذ والتشوّه؟ فهل يستحقّ هؤلاء التسامح؟
لعلّ جمال خاشقجي ممن نصح قومه حيّا وميتا، وهذه من فضائل النبلاء، إلا أن الانحطاط الآدمي، وإن استدعى في بعض أحواله الشفقة والرثاء، فإنّه لا يستدعي التسامح أبدا، إذ قد يجدر بك الإعراض عن المنحطّ، لكن
لا يجدر بك التسامح معه.
يتسامح المرء في ما كان شأنا شخصيّا، ويعفو عن مؤذٍ كانت نواقصه مما لا ينفكّ عنه البشر من حيث هم بشر، وأمّا الانحطاط فهو القضية المركزية التي ينبعث لأجل محاربتها الأنبياء والمصلحون والثوار، فهي النقيض التام لأصل الكمال الإنساني: وبشرح موجز: خلق الله آدم وأسجد له الملائكة، ثم أراد من هذا المخلوق الاحتفاظ بكمالاته من سلب الغرائز المركّبة فيه، فأدخله في اختبار يرقى فيه إلى درجات الكمال باختياره، أو ينحطّ فيه باختياره، فإذا انحطّ المرء فإنّنا إزاء حالة مروّعة من الجور على الكمال الآدمي!
قد يكون المرء عارفا بالحقيقة متنكّبا عنها خوفا أو طمعا، أو كليهما، وهذه واحدة من مظاهر غلبة البهيمية على الإنسان، وهي معالم الانحطاط الأولى، ولعله
يتنكّب عن الحقيقة حبّا أو بغضا أو كبرا، وهذه من مظاهر استحواذ الشيطان على الإنسان، وهي انتكاسة أعمق من انتكاسات البهيمية، والشيطان عدوّ الإنسان الذي أُمر أن يتخذه عدوّا ولا يعبده، ثم إذا هُزم الإنسان في اختباره، منحطّا إلى البهيمية، أو عبدا للشيطان، فإن الحالة المروّعة هي عمى الصدور، أي عمى البصيرة التامّ عن إدراك الحقّ، ثم ضلال أشدّ من ضلال البهائم، فكيف يجوز التسامح مع المنحطّين؛ والحرب على الانحطاط هي مهمة الأنبياء، والمهمة هي الدفاع عن الجنس البشري كلّه، كرامته، ومنزلته التي يريده الله عليها؟!
وإذا كان الإنسان، نازعا، بما رُكّب فيه من ضرورات الاختبار، إلى الخضوع والعبودية، وألصق ما في الإنسان مما يمكن أن يخضع له؛ غرائزه وهواه، وكانت العبادة لله الواحد تحصينا للإنسان من أن ينحطّ بالعبودية لأجناس المخلوقين وغرائزه الفانية وأهوائه الشيطانية، وكانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإنّ الظلم من أفحش المنكر، حتى جعله الله اسما للشرك، وبهذا يكون الظلم؛ فعله، والرضى به، والدفاع عنه، وعن مقترفيه، ومحبتهم، كل ذلك، أو بعضه، من أبين ما يناقض مفهوم التوحيد، ويتعارض مع غايات العبادة.
فكيف إذا صُرف الدين إلى غير غايته، وزُيّف على غير حقيقته، دفاعا عن الظلم والظالمين وحماية لهم؟! إنّ هؤلاء لا يعلنون الحرب على الجنس البشري فحسب، وإنما على الله أيضا، وباسم الله، فتعجّب!
وفي الحديث "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، ومن كلام ابن مسعود: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلابعدا"، وأول الأمر نكتة سوداء في القلب، فمن لم ينزع ولم يتب، علا السواد قلبه، حتى يُطبع عليه، وينضمّ إلى حظيرة عبدة الشيطان، المنحطّين إلى ما دون البهيمية، فلا ظلم حقيق بالتسامح، ولو كان نكتة أولى، فالمآل مأساوي، فكيف بمن أُشرب قلبه الظلم، حتى صار ظالما!
لعل خطأ جمال خاشقجي أنّه لم يتبين قعر الانحطاط الذي ارتكس فيه مختطفوه وقاتلوه، فأمّن لهم، فقتلوه غدرا وخسّة. ولعله، وهو يدعو دولته غير مرّة لأن تكون مبادرة في الشأن الإقليمي، لم يتنبه بشكل كافٍ إلى أن المبادرة المؤسسة على غير الحقّ والعدل؛ سوف تفضي إلى سحق الأطفال في اليمن، ومن سحق (بدعمه وماله وتآمره) الأبرياء في مصر التي عارض انقلابها خاشقجي؛ لن تكون مبادراته و"بطولاته" إلا ظلما مُعلّما على أجساد المستضعفين والمساكين.
رحم الله جمال خاشقجي، آل - في آخر أمره - إلى النبل والفضيلة والدفاع عن المظلومين في بلده على طريقته، وأما الظلمة فلا يستحقون إلا المعارضة الجذرية، ولا يستحق أنصارهم بعد الازدراء إلا الفضيحة.