يتساءل الكثيرون عن
المبادرات السياسية التي يطرحها البعض من حين إلى حين.. يتساءلون متعجبين مستنكرين.
غالبية الأطراف كانت طرفا في مبادرة ما في وقت ما، والأطراف الأخرى استنكرت (مبادرته)!
يستنكر البعض على الآخرين "مضغ المبادرات السياسية" من أجل حلحلة الأوضاع، أو بهدف إلقاء حجر في المياه الراكدة، ولكنهم لا يستنكرون "مضغ وهم عودة الشرعية"!
يستنكر البعض "مضغ ذكرى رابعة"، ولكنهم - يا للعجب - لا يستنكر "مضغ ذكرى محمد محمود"!
الكلُّ "يمضغ" شيئا ما، وفي الوقت نفسه "يتفتف" علينا وهو يستنكر "مضغ" الآخرين!
لقد تحوّلت الحياة السياسية في
مصر إلى جلسة "تخزين"، والكل مسطول من تأثير ذلك "القات السياسي"، ولا أحد يريد أن يفهم الجريمة الكبرى التي نشترك فيها جميعا؛ جريمة السماح باستمرار الوضع الحالي، جريمة ترك النظام المستبد في موقعه دون منغص، جريمة ترك هذه العصابة تبيع الوطن في سوق النخاسة!
* * *
غالبية أطراف الحياة السياسية في مصر اليوم تتبادل الأدوار، فحينا ترى ميمنة السياسيين في وضع إيجابي، يطرحون المبادرة، فترى الميسرة ترشقهم بسهام التخوين والإحباط، ثم تدور الأيام، فترى ميسرة السياسيين يبادرون، والميمنة تهاجمهم بسلاح الخيالة بكل قسوة... وهكذا حتى هَزَمَ جيشُ مقاومة الانقلاب نفسَهُ بنفسِهِ، وجيشُ الاستبداد جالس في مقاعد السلطة، لا يؤرقه أحد. نظام الاستبداد يبيع الوطن، ويقدم تنازلات سيدفع ثمنها الجميع لعشرات - وربما مئات - السنين، ولكن لا يهم، المهم أن نفضح المبادرة التي تقدم بها فلان أو علان، لكي نكشفه أمام الجماهير، تلك الجماهير التي لا ينقصها أي شيء في الحياة إلا كشف فلان أو علان.
* * *
ليس هدف هذه المقالة تبرير ذلك "القات السياسي" البغيض، ولكن الهدف أن يعلم الجميع أنه لا ميزة لأحد على أحد، فقد اقترفت غالبية الأطراف غالبية الأخطاء التي ارتكبتها غالبية الأطراف الأخرى.
وقد عَيَّرَ الجميعُ الجميعَ، وكل من يحاول أن يظهر نفسه بمظهر الحكمة اليوم... يفضحه تاريخه بالغفلة بالأمس.
كلُّ مُعَيِّرٍ مُعَيَّرٌ!
وإذا دققت سترانا جميعا مُعَيَّرينَ بالأشياء نفسها!
يقول لي أحد مدّعي الحكمة: كفانا كيانات ثورية... ويتناسى أنه عضو في عدة كيانات!
يقول صديق آخر: "فلان عارض الدكتور مرسي"، وينسى أنه هو نفسه قد عارض الدكتور مرسي.. الأول عارض الدكتور مرسي لأنه لم يكن ديمقراطيا مع الجماعة الوطنية، ولم يكن قويا ضد العسكر، والثاني عارضه لأنه لم يكن قويا مع الجماعة الوطنية، ويعذره في تعامله مع العسكر!
فكلاهما يرى الدكتور مرسي قد أخطأ... هذا يراه قد أخطأ بطريقة، والآخر يراه قد أخطأ بطريقة أخرى (وهذا في حد ذاته أرضية كافية لجمع الفريقين لو كانوا يعقلون)!
* * *
لقد هاجمنا "عنان" لأنه عسكري، وهاجمنا "البرادعي" لأنه كان في جبهة الإنقاذ، وهاجمنا "معصوم" لأنه من دعاة "سهرة تلاتين سونيا"، وهاجمنا "أيمن نور" لأنه ليبرالي عميل للانقلاب، وهاجمنا "محسوب" لأنه استقال من وزارة هشام قنديل، هاجمنا "سيف عبدالفتاح" لأنه استقال من الفريق الرئاسي، وهاجمنا "بيان القاهرة" لأنه من الداخل، وهاجمنا "الجبهة الوطنية" لأنها في الخارج، وهاجمنا "الإخوان" لأنهم إخوان! وهاجمنا "6 إبريل" لأنهم "زي ما تحب"!
الكل جاهز ومستعد للهجوم على أي طرف آخر يحاول أن يقدم أي تصوّر لأي خطوة، ولا أحد يريد أن ينظر لنفسه في مرآة الحقيقة.
* * *
لا أقول ذلك تعليقا أو تبريرا لنداء أو مبادرة السفير معصوم مرزوق!
صحيح أن غالبية من يقرأ هذه المقالة - في هذه الأيام - سيعتبرها كذلك، ولكن الحقيقة أنني أكتب تعليقا على حالة عامة بدأت منذ سنوات، وهي مؤهلة للاستمرار لسنوات (إذا لم يراجع كثيرون أنفسهم)، والمقالة يمكن أن تقرأها بأثر رجعي، وأتوقع - ولا أتمنى - أن تستمر قابلة للقراءة لمدة طويلة.
كثير من المعلقين السياسيين، والشخصيات العامة أكبروا شجاعة السيد معصوم، ونادوا بعدم تركه في المواجهة وحيدا ضد النظام (وكاتب السطور واحد من هؤلاء)، ولم يدخلوا في نقد أو الإشادة بتفاصيل المبادرة أو النداء. ولا شك أن كلام السيد معصوم يحتوي على عشرات النقاط الخلافية، ولكن ذلك لم يكن هدف غالبية المعلقين، وليس معنى الدعوة لدعم الرجل في وجه النظام المسعور أننا قد سلمنا بتفاصيل مبادرته، وأننا قد قبلنا كُلّ أو جُلّ ما ورد فيها.
هناك من يدمن "القات السياسي"، يشجعه على ذلك الفراغ، وجلسة "التخزين" الممتلئة بألتراس هذا الاتجاه أو ذاك، أو محبي هذه الفكرة أو تلك، أو بأنصار تلك الجماعة أو أعدائها.
البعض يمضغ "قات الوطنية"، والبعض يمضغ "قات الدولة المدنية"، والبعض يمضغ "قات الشرعية"، والبعض يمضغ "قات الاصطفاف"... وكلها مبادئ لو دققت فيها رائعة، ولكن لا أحد يريد أن يتجاوز عتبة مجلس "القات"، لا أحد يريد أن يوقف متعة "التخزين"، لنواجه معا تلك الأخطار الوجودية التي تهدد الوطن.
* * *
إن واجبنا جميعا أن نعلي المصلحة الوطنية، وهي بلا شك تحتوي على بعض ما أراه أنا، وبعض ما تراه أنت، وهي تعني أن يتنازل الجميع تنازلات مؤلمة، ولكنها تعني - بلا شك - أن ينتهي هذا النظام (بالتدريج وليس فورا)، وأن يحاسب من أساء - عاجلا أو آجلا - وأن تبدأ صفحة جديدة، تنتهي بعملية تحول ديمقراطي نتجنب فيها ما حدث خلال المرحلة السابقة.
* * *
ملحوظة: في الذكرى الخامسة لمجرزة رابعة نقول: سيظل جرح رابعة وأخواتها في قلب كل شريف في مصر والوطن العربي والعالم كله، ومهما مرّ من الزمن، سيظل هناك من يسعى لمحاسبة المجرمين الذين شاركوا في هذه المجازر.
رابعة... مجموعة مجازر... وهي جرائم ضد الإنسانية... لا ولن تسقط بالتقادم!
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني:
[email protected]