كتاب عربي 21

ما بعد النداء (مضيق مسينا-1)

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
نحن نعيش حقبة الـ"ما بعد"، وهذا يعني باختصار أن "ما كان" فشل تماما، أصبح مرفوضا بسبب وضعه الماضوي ومغضوبا عليه لأسباب نفسية أكثر منها منطقية. فالرفض شامل لما كان.. حتى لو كانت فيه أشياء كثيرة صالحة، لهذا يعيش العالم حالة خطيرة من الملل وسرعة التغيير، تصحبها أعراض متطرفة من الرفض العصابي للماضي بكل تجاربه، وللحاضر بكل محاولاته، بينما تحول المستقبل إلى سوق مراهنات فردي، يغامر فيه كل فرد تقريبا برقم سحري من اختياره يعتبره مفتاحه الخاص للعبور إلى "جنة الأحلام". لهذا السبب تحديدا لن تجدي مناقشتي للنداء الذي أطلقه قبل أيام الدبلوماسي المصري السابق معصوم مرزوق، كخارطة طريق لحل المعضلة المصرية، لكن يستهويني بعد هذا المدخل أن أناقش مرحلة "ما بعد النداء".

(2)
النداء في جوهره لا يختلف عن كثير من الأفكار التي أطلقها آخرون، لكنه يترجمها إلى "فعل سياسي" وإجراءات مرتبطة بجدول زمني ينتهي بنهاية هذا الشهر (31 آب/ أغسطس)، وهو يوم الدعوة لإعادة إنتاج مشهد الاعتصام في ميدان التحرير، حال فشل الاقتراحات المطروحة. وهي باختصار "الاستفتاء مقابل التحصين". لكن هذا الاختزال الثنائي ليس كل ما في النداء، فهناك مفاهيم متصلة ومشترِكة مع النداءات السابقة والمتكررة في ضرورة "عزل القديم كله"، وهي مفاهيم ترتبط بنزعة الرفض وانعدام الثقة، ومع ذلك هناك نضع الأمل في أن ذلك قد يحقق القبول والتوافق!

(3)
على المستوى الفلسفي، فإن تحقيق نتيجة جديدة من متناقضين قديمين، يتطلب تفاعلا خلاقا تتم إدارته بوعي وعلم وذكاء، وهذا مما يسميه المفكرون "الديالكتيك"، أي "التفاعل الخلاق" الذي نراهن عليه رغم الشواهد المؤسفة لغيابه في الواقع. ولكي أخرج سريعا من هذا الغموض النظري أوضح باختصار أن "النداء" يحاول أن يقنع كسيحاً بخوض سباق الماراثون؛ بشرط أن يخلع ساقيه الاصطناعيتين (الجيش والإخوان). ربما كان المقصود هو التركيب الخاطئ للساقين، أو تعطيلهما لنمو ساقين طبيعتين من الجسد، بعد نجاح التجربة في بلدان أخرى، لكن الصياغة تقفز إلى المستقبل بحصان الطفرة والأمنيات  من دون تدريب كاف على نجاح القفزة بدون كبوة محرجة ومعطلة أكثر.

(4)
المثير للدهشة أن أسئلة اللحظة الراهنة، والتي تتعلق بمناقشة تفاصيل النداء والموقف الحدي منه: "مع أو ضد؟"، تأخذنا مباشرة إلى قلب الدوامة، فنغرق في المعضلة ونتصارع في تفاصيلها، ولا نهتم بالموضوع الأساسي: مسار الرحلة.. ما بعد الدوامة، فالدوامة مجرد تحد في الطريق وليست الطريق نفسه، وهذا يذكرنا بمعضلة "مضيق مسينا" في الأوديسة، حيث يتحتم على التائهين عبور المضيق المحصور بين وحشين (سيلا / كاريبدس) وهذا يعني أن محاولة النجاة من سيلا التي تبتلع البحارة برؤوس الذئاب التي تحيط بخصرها، تؤدي إلى الوقوع في الدوامة المهلكة التي يفتعلها كاريبدس عن طريق ابتلاع ماء البحر ثم إعادته في صورة أمواج وعواصف بحرية. وقد أنتجت هذه الأمثولة معضلة تكاثرية في ثقافات العالم اسمها معضلة الـ"ما بين"، منها: بين سيلا وكاريبدس (تكتب أحيانا سكايلا وخاريبدس، وبمنطوقات أخرى عن اللاتينية)، ومنها بين الصخرة والجبل، أو بين الوحش والبحر الغريق، أو بين المطرقة والسندان، وهي الأشهر في ثقافتنا العربية.

(5)
الثنائيات المخيفة التي تضمنتها الأساطير كانت من الوحوش البغيضة، أو من قوى الطبيعة الكارثية، وربما كانت من قبل شخصيات أجمل وأرقى، لكن الآلهة غضبت عليها فأحالتها مسوخاً شريرة لعقابها على العصيان، وهذا ما يسهل على العابرين قتل الوحوش أو الهروب منها. لكن ماذا لو كانت الثنائية عضوية (مثال ساقي العَدّاء) أو حسب صياغة الثنائية في العامية المصرية: لا أسوأ من سيدي إلا ستي؟! حينها يصعب الحديث عن قتل الجدين السيئين أو أحدهما لنتخلص من السوء، بل يكفي أن ننظم العلاقة، حتى لو استخدمنا "المسافة" كأسلوب لتجنب السوء، فهل يمكن أن نفهم شرط حرمان "الجدين المسيئين" من تقلد السلطة عشر سنوات، باعتباره تنظيماً واجتنابا للسوء، أم أنه بذرة إقصاء نهائي من العمل العام؟!

(6)
مثل هذا السؤال، هو الزاد الذي تتغذى عليه المعضلة، لنستمر في الدوامة.. بين المطرقة والسندان؛ لأننا نتصور أن الحل السليم لا بد ان يتحقق بلا جهد وبلا خسائر، وهذا التفكير يعني أنك تريد أن تكسب المباراة بدون أن تلعبها، أو تستمع بطعم التفاحة بدون أن تأكلها، ولهذا تذكرت قصة متسلق الجبال "أرون رالستون" الذي خاض تجربة صعبة حوصر فيها بين "المطرقة والسندان"، أو بين الصخرة والجبل، وقد سجلها في كتاب بنفس الاسم حقق أعلى المبيعات. لكن رالف الذي عاد إلى الحياة ليحكي للعالم معجزة النجاة، اتخذ قراراً مفزعاً بعد أيام من التفكير والمراجعة واستخدام إمكانيات بسيطة لا يملك غيرها، فقد قرر قطع يده التي تحولت إلى قيد يهدد حياته، بعدما ضغطت عليها صخرة هائلة حاصرته في ممر ضيق بين جبلين. وقد تجنبت لفترة طويلة استكمال مشاهدة الفيلم العظيم الذي قدم قصة رالستون؛ لأنني لم أقوَ على مشاهدة هذا الموقف، لكن المعضلة التي نعيش فيها شجعتني على تقبل كل البشاعات باعتبارها حقائق، لذلك سوف أكتب لكم تفصيلاً عن درس رالف رالستون في مقال لاحق.

(7)
يبقى أن أقول إن نداء الخلاص، ليس بيانا يصدره شخص فيرفضه أو يقبله آخرون، لكنه "نداء داخلي" لا مفر منه. ومهما كانت التضحيات صعبة، إلا أن كل عابر نحو هدف في هذه الحياة، عليه أن يقبل التحدي وأن يتخذ القرارات المناسبة ليستمر في رحلته، من دون أن يهلك في "مضيق مسينا".

الرحلة مستمرة

[email protected]
التعليقات (0)