هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كنا في الجزء الأول من هذا المقال قد عرفنا الأسئلة البلاغية والأسئلة الاستفهامية، وكنا أيضا قد ربطنا الأزمة البنيوية التي يعيشها مسار الانتقال الديمقراطي بتونس بهيمنة الأسئلة البلاغية؛ وعدم وجود "كتلة تاريخية" تطرح الأسئلة الاستفهامية القادرة على بناء الجمهورية الثانية على أساس المواطنة الكاملة، لا المواطنة الناقصة أو المشروطة لأي طرف كان (بالطبع مع شرط تحرك كل الأطراف داخل مشترك مجتمعي يعاد التفاوض فيه سلميا وإراديا بعيدا عن الاستعلاءين الحداثي والإسلامي).
وسنحاول في هذا الجزء الثاني من المقال مواصلة الحفر في البنية العميقة للأسئلة البلاغية، والبحث عن السؤالين المركزيين اللذين صارا أساس الجهاز الأيديولوجي "اللاوظيفي" في هذه المرحلة من تاريخ تونس، كما سنحاول صياغة السؤالين الاستفهاميين الأساسيين اللَّذين نقدّر أنّ طرحهما بصورة جدية قد يكون فاتحة لعهد مواطني جديد.
لقد تحدثنا في الجزء الأول من المقال عن هيمنة الأسئلة البلاغية بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية، وهي هيمنة ترتبط - في تقديرنا المتواضع - بأسطورتين متصارعتين في الظاهر، ولكنهما متعامدتين في الواقع (أي يعتمد وجود إحداهما وبقاؤها على "ضرّتها" أو ضديدها الأيديولوجي: أسطورة النمط المجتمعي التونسي وأسطورة "الإسلام هو الحل". وقد يعترض علينا معترض بأن الأيديولوجيات الكبرى (أي السرديات الإسلامية واليسارية والقومية) تفيض على مفهوم "الدولة الوطنية" أو "الدولة- الأمة" التي هي السقف الأعلى لأسطورة "النمط المجتمعي"، كما أنها خلال تواريخها المختلفة قد دخلت في صراعات (دموية أحيانا) ضد البورقيبية ومنطقها الذي كان الأساس الأيديولوجي للنظام التونسي في لحظتيه الدستورية (على عهد بورقيبة) والتجمعية (على عهد المخلوع ابن علي).
ولكنّ هذا الاعتراض - على وجاهته ظاهريا - مردود لأسباب عديدة يمكن ردها إلى نقطة جوهرية واحدة تحوّل الأيديولوجيات النسقية الكبرى (بعد الثورة) إلى خدمة البورقيبية ومنطق التحديث المأزوم الذي بنت عليه "الدولة الوطنية". وما نجاح المنظومة القديمة في العودة إلى مركز السلطة (عبر السيد باجي قائد وسردية الأب المنقذ الذي يحيي البورقيبية ويعيد للدولة هيبتها) إلا أكبر دليل على ذلك. فقد نجح ورثة المنظومة القديمة ونواتها الصلبة (وهي نواة جهوية- مالية أمنية معروفة) في جعل البورقيبية بخياراتها الكبرى "خطابا كبيرا" مهيمنا على باقي الخطابات المنافسة، بل مدجّنا لها وموظفا لها في استراتجيات إعادة التموقع والانتشار. وكان آخر الملتحقين بـ"سرير بروكست" (وهو سرير أسطوري تقطع فيه أجزاء الجسد التي لا تناسب مقاساته) هو حركة النهضة.
مهما كان موقفنا من الدور الذي لعبته النخب العلمانية في نظام ابن علي (سواء أكان دورا صريحا أم دورا سريا)، فإننا لن نختلف كثيرا في أن أغلب النخب اليسارية والقومية قد اختارت (بعد الثورة) أن تتمدد "طوعيا" على سرير بروكست؛ انطلاقا من هيمنة الصراعات الثقافوية الهوياتية التي حرصت النواة الصلبة للمنظومة القديمة على تغديتها، مستعينةً في ذلك بجهاز كامل من منتجي خطابات "التلهية" و"التخويف"، وهو جهاز يسيطر عليه من يمكننا وصفهم بــ"كلاب الحراسة الأيديولوجية"، على حد تعبير بول نيزان. وقد أجبرت تلك الصراعات الأيديولوجية (التي هي في النهاية تعبيرات رمزية عن استراتيجيات "قتالية" للدفاع جملة من المصالح الرمزية والمادية الموروثة من عهد ابن علي، والتي ترفض أغلب النخب"العلمانية" إعادة التفاوض في شأنها) كل الأيديولوجيات العلمانية الكبرى على أن التتخفف من بعض مكوّناتها الجوهرية لتنام على ذلك السرير الأسطوري في مواجهة الإسلاميين في الداخل والخارج. أمّا حركة النهضة (وهي آخر الملتحقين بسرير بروكست البورقيبي)، فقد نامت على ذلك السرير بعد الثورة، خاصة عبر سياسة "التوافق" مع حركة نداء تونس وما تتطلبه من تَونسة كان محصولها في النهاية هو المشاركة في سلطة تابعة ومافيوزية. ونحن نزعم أنّ فيما سبق من معطيات ما يسمح لنا أن نقول بلا مواربة إن كل السرديات الكبرى قد أصبحت واقعيا (بحكم فشلها عن إدارة الصراعات بعيدا عن المدارات الهووية) مجرد سرديات تابعة للسردية البورقيبية، وذلك بصرف النظر عن ادعاءاتها الذاتية.
ولو أردنا أن نعرّف "النمط المجتمعي التونسي" انطلاقا من استقراء الواقع (وليس انطلاقا من الدعاوى والتنظيرات)، فإننا سنقول إنه في حقيقته "تَونسة مشوّهة" للنمط المجتمعي الفرنسي في فضاء حضاري متخلف وتابع. فما يُسمّى بالدولة الوطنية قد أقامت مشروعها التحديثي على استلهام النموذج الفرنسي المحكوم يالخلفية اللائكية اليعقوبية (تدخل الدولة في الشأن الديني وهيمنتها عليه، وكذلك مركزة السلطة بصورة أدت إلى ظهور تلك الثلاثية المعروفة: الوطن- الحزب- الزعيم). وهو مشروع تحديثي مأزوم، حرصت أغلب النخب (بيمينها ووسطها ويسارها) على ألاّ تتحول اللحظة الثورية بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 إلى لحظة مساءلة جذرية له، وإلى لحظة إعادة تفاوض مبدئية على مشترك مواطني يجُبّ ما قبله من تراث استبدادي ذي ركيزة جهوية- زبونية. ولذلك تحوّلت "أسطورة الإسلام هو الحل" (لأسباب يطول شرحها في هذا الموضع) إلى جزء ينيوي ووظيفي من أسطورة "النمط المجتمعي"، وذلك رغم مخاوف العلمانيين التي يمكن تفسيرها بعوامل نفسية أو مصلحية؛ أكثر مما يمكن تفسيرها بعوامل تتعلق بأية تهديدات محتملة على النمط المجتمعي التونسي ومكاسبه من طرف حركة النهضة (اللهم إلا بعض المكاسب الفردية والفئوية والجهوية التي مازال المتمتعون بها يرون الدولة ملكا خاصا بهم، ويرفضون إعادة التفاوض في شأن مجمل الخيرات المادية والرمزية، سواء أكان المطالبون بها من النهضة أم من غيرها).
لقد نجحت النواة الصلبة لمنظومة الحكم في تحويل أسطورة "الإسلام هو الحل"، وهي مجرد استعارة مذهبية فضفاضة لا تفهم الإسلام ولا ترغب في إحيائه إلا في تاريخه السلطاني ومنطقه ما قبل المواطني؛ إلى لبنة في مشروع "استمرارية الدولة" بمعناه المفهوم عند وكلاء الاستعمار في مرحلته المُعولمة. فـ"تونسة" حركة النهضة وتحوّل الشعار في هذه المرحلة إلى شعار "التوافق هو الحل"، لا يعكسان "فقط" نجاح هذه الحركة في كسر الطوق الذي ضربته القوى الاستئصالية لمنعها من دخول الدولة وإبقائها هامشا للقمع الأمني والعنف الرمزي زمن المخلوع، بل يعكسان أيضا قبول النهضة بالتمدد على سرير بروكست لتدخل دولة (أو لتحكم دولة) ليس لها من مقوّمات السيادة شيء.
لو فهمنا الواقع انطلاقا من ثنائية السؤال الاستفهامي والسؤال البلاغي، ثم ربطنا هذه الأسئلة بالأيديولوجيات المتصارعة بالسردية التحديثية البورقيبية، فإننا سنفهم بصورة أفضل علة هيمنة الأسئلة البلاغية على المشهد التونسي وضمور الأسئلة الاستفهامية، واستحالة أن ننتظرها من المسيطرين على الشأن العام. ونحن نزعم أن جميع الأسئلة البلاغية للنخب العلمانية ترجع إلى سؤال "لاوظيفي" يمكن صياغته على الشكل التالي: كيف يمكننا حكم تونس دون النهضة، أي دون إعادة التفاوض على بنية السلطة وعلى آليات إنتاج الثروات المادية والرمزية وتوزيعها؟ والحال أنّ التحرك من موقع السؤال الاستفهامي الذي هو أقرب لروح الحداثة، بل لروح الثورة هو التالي: كيف يمكننا أن نحكم تونس مع النهضة (وباقي الشركاء)، لكن في إطار مشروع وطني جامع لا نكون فيه جميعا مجرد وكلاء يتزايدون على إدارة التخلف والتبعية؟ وليست النخب النهضوية أفضل حالا من النخبة العلمانية؛ لأن أسئلتها البلاغية كلها مردودة في تقديرنا المتواضع إلى السؤال التالي: كيف يمكننا أن نصبح شركاء في الحكم بصرف النظر عن طبيعة ذلك الحكم وعلاقته بالمواطنين في الداخل وبالقوى الاستعمارية في الخارج ؟ والحال أنّ السؤال الاستفهامي الأهم الذي ينبغي على النهضويين والقريبين منهم طرحه؛ هو التالي: أي دولة نريد أن نحكمها وأن ندمج فيها المهمشين أيديولوجيا وجهويا؟ أي هل نحن مستعدون لأن نكون مجرد بدائل وظيفية عن الوكلاء التقليديين للاستعمار، أم إننا نطرح أنفسنا باعتبارنا قاطرة لوعي مواطني جديد يتجاوز مرحلة التنافس على إدارة الأزمة وتسويقها إلى مرحلة اجتراح الحلول التشاركية للخروج من الأزمة البنوية للنظام؟
رغم سوداوية المشهد التونسي المفتوح على الفوضى وعلى مزيد من تجذير التبعية والتخلف، فإنّ عجز القوى الانقلابية عن العودة بالبلاد إلى مربع الاستبداد يجعل القوى المواطنية (بما فيها بعض القوى الهامشية داخل منظومة الحكم والمعارضة"القانونية") أمام مسؤولية تاريخية كبيرة، وهي مسؤولية ينبغي أن تنطلق فيها بطرح أسئلتها الاستفهامية الخاصة، تلك الأسئلة التي تستوعب سؤال النخب العلمانية والإسلامية المتصارعة ولكنها لا تعيد إنتاجها، بل تتجاوزها إلى أسئلة جديدة قد يكون لنا عودة مفصلة إليها في مقال مفرد إن شاء الله.
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية